سوسنة.. وبرعم فلٍّ.. وأستأذن في قراءة أوجاعك يا حسن..
حيدر الجراح
قيل عن الشعر أنه ديوان العرب المفتوحة بواباته على عوالم الدهشة، والمشرعة نوافذه على جذاذات الروح ولوعة القلب.. ديوان العرب هذا، رافق الإنسان الساكن والمسكون فيه في حلّه وترحاله، وجاب معه رمال الصحراء وأفياءها، وصعد معه فوق تلالها، وهبط وأهبطه نحو قيعانها.. وكانت تلك الرفقة والمصاحبة تروّي عطشها قطرات الماء في عين تحوطها أشجار قليلة هي ملاذه من هجير الشمس ولفحها، ويقطع الطريق معه يحدو على جمله –وحيداً أو محاطاً بمجموعة من رفاقه وتردد الرمال صدى صوته- يا حادي العيس- وحين يلفّه الليل وتصبح الصحراء بحراً لجيّاً من الألغاز والأساطير والأشباح يحضن واحده الآخر، وعلى دفء النار المتوهجة، وحول فناجين القهوة الدائرة محاكية سواد الليل يقطعوه سمراً لذيذاً.. يتحاوران.. وتتساقط الكلمات ينابيع ماء مصفى يروي عطش الروح، وتختلط الأوصاف والأسماء..
فهناك امرأة مشتهاة تعشقها القلب ولم يتبق من عطرها غير بقايا طلل ينوح عليه الشاعر ويبثه أوجاعه.. يصرخ أمام الرمال التي تحيطه من كل جانب وتحاول أن تطمره وتطمر معه ذكرياته وأحلامه وماضيه وحاضره.. يصرخ ملتاعاً:
قفا نبك.. يا دار ميّة بالعلياء..
ولم تبتعد أغراض هذا الديوان عن المرأة.. الخمرة وعن الطلل.. الرحيل وعن الحكمة.. المثل أو عن القبيلة.. النسب.. وعلق العرب ديوانهم الذي صاغوه بالفطرة.. الممارسة على أستار الكعبة بعد أن رسموه بالذهب..
وعندما تفجرت ثورة الإسلام في جزيرة العرب واكتسحت أمامها أصنامهم ورؤاهم تفجر معها ديوانهم وترجم انفجارات هذه الثورة إلى كلمات تنضح بالولاء لهذه العقيدة الجديدة.. وظهرت أغراض عديدة منها الإسلام –التوحيد والنبي – الأمة والإيمان – الكفر والجنة – النار، وهذبت لغة الديوان وأصبحت تتعاطى مع كلمات القرآن وكلمات الرسول)صلى الله و عليه و آله و سلم(، وتؤرخ لأحداث تلك الثورة التي عصفت بالمسلمات والمقدسات التي كانت تبحث عن ثيات لها فوق رمال الصحراء.. وأنى يكون ثبات أساسه رمال متحركة؟.
وقد نهج الشعراء وخصوصاً منهم الذين تدربوا على معطيات الإسلام وتعاليمه على استلهام صور القرآن والحديث والقيم والمناسبات الإسلامية العديدة وتوظيفها صوراً حية ناطقة في شعرهم تفصح عن عمق التجذّر الذي أحدثته تلك التعاليم في نفوسهم، وبعد أن كان الشاعر العربي يطارح ملهمته القادمة من أودية عبقر أو الناهضة من حرائق الأحلام والأطياف الراحلة الغرام لكي تبوح له بأسرار قصيدته، أصبح الشاعر الإسلامي يسبّح الله في ملكوته، ويجوّد الصوت في قراءة آياته البينات لتعلمه لغة جديدة وثرّه ينهل منها وتنسكب على أوراقه وبين يديه معاني دافقة بهذا التوحد وهذا التفرد..
يقول الدكتور يوسف خليف واصفاً هذا التأثير: )كان هذا التأثير (الإسلامي) يظهر في الألفاظ والمعاني كما كان يظهر في الأساليب والصور((1).
وحول أثر الإسلام في تطور الشعر وأدوات الشاعر تقول الدكتورة بنت الشاطئالتطور الهام الذي حدث هو أن الإسلام أراد لشاعر القبيلة أن يصير شاعر الأمة فلم يهدر بهذا ذاتية الشاعر بل أراد أن ترحب فلا تعود محدودة بنطاق الأسرة أو القبيلة((2).
وقد استطاع أن يهتدي إلى هذه الحقيقة –حقيقة الأثر الذي أحدثه الإسلام على الشعر والشعراء- طائفة من المستشرقين فقال غوستاف فون غرنباوملم يمض جيلان على ظهور الإسلام حتى امتلأ الأدب العربي بالموضوعات وبصور التعبير المتصلة بالدوافع الدينية((3).
وقد أولع نقاد الشعر قديماً بدراسة ديوان العرب ووضعوا نظرياتهم حول الصورة –المعنى والصدق- الكذب وقالوا بأن أعذب الشعر أكذبه من خلال قراءاتهم المبتسرة والناقصة لأغراض الشعر المعروفة وتجاهلوا في نظرياتهم النقدية التي وضعوها – أو أنهم لم يلتفتوا إليه بالاهتمام الكافي – لشعر الثورة – الصحوة الذي انبثق عن صدق عذب لا تخالجه رنة كذب أو تزويق أو ممالاة...
والشعر باعتباره فناً إبداعياً على درجة رفيعة من الرقي والسمو فإن النقاد قد وضعوا عدداً من المقاييس للشكل والمعنى للحكم على جودته وثرائه من خلالها وسنحاول ذكر بعض تلك المقاييس بصورة سريعة:
1 - الصدق والكذب..
وحددوا الصدق بنوعين.. أولهما ما طابق الشاعر فه وقائع العالم الخارجي فيكون مصيباً فيما يكتب.. وثانيهما صدق مطابق للحالة النفسية التي يحياها الشاعر وهو صدق عاطفته أو بتعبير آخر الصدق الفني(4). كما تقرأ للشاعر الشهيد من ديوانه الطغاة وهو يصف الإنسان
الشيعي الذي هو نفسه..
أنا فكر لم يزرع..
أنا باب لم يشرع
أنا نبض.. لم يهجع
وبقايا حلم –كالنور- يجوب الأفق ولا يقنع
ويصارع كل الأجواء.. وكل الأشياء.. ولا يصرع
أنا دمع ينفر –كالبارود- وعرق يضرب كالمدفع
أنا وحي رسول.. أحرقه الطاغوت ولم يركع
أنا خبز فقير.. مات ولم يشبع
أنا جرح.. حاربه كل سلاطين الأتراك ولم يخنع(5).
2) المثالية والواقعية..
والمثالية هي ما يجب أن يكون بينهما الواقعية ما هو كائن.. والاتجاه العام عند نقاد العرب هو مؤاخذة الشاعر على رسم ما ينبغي أن يكون لا رسم ما هو كائن حقاً(6).
3) الاتباع والابتداع...
ونعني بهما من اتبع نهج القدامى في شكل القصيدة ومعانيها اعتبر اتباعياً لم يفارق عمود الشعر، وبالمقابل اعتبر مفارق عمود الشعر ابتداعياً(7).
والشاعر الشهيد قد نهج على الطريقتين في نظم الشعر فهو تارة اتباعياً في شكل قصيدته وتارة أخرى ينهج نحو الاتبداع والخروج عن النمط التقليدي للقصيدة العربية الاتباعية.
4) الوضوح والغموض..
في وضوح المعنى رأى نقاد العرب جودة الشعر، والرداءة في غموضه(.
5) الألفة والندرة..
وهو كون المعنى معروفاً لدى النقاد حيث لم يروا فضلاً لمن يجيء باللفظ المألوف عدا فضل النظام وحسن السبك ولكن المعاني المبتكرة هي التي تعطي القصيدة قيمتها عند النقاد(9)..
كقول الشاعر الشهيد:
لا تحاول غرقي بقطرة دمع
في دمي ألف دجلة وفرات
أو كقوله:
فمداد الأقلام نظماً.. ونثراً..
لا يساوي تكبيرة من شهيد..
6) المحسنات البديعية المعنوية..
عد النقاد منها الطباق وهو الجمع بين المعنيين المتقابلين في الجملة(10) والمقابلة وهي عدة طباقات متتالية.. ومراعاة النظير وهي الجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه من غير تضاد(11) واستحسنوا المعنوي منها(12)... كقول الشاعر الشهيد:
لا تبكني.. فالموت بدء حياتي
وغداً.. سأولد عند فجر مماتي
7) الصحة والخطأ..
طالب نقاد العرب الشاعر بمراعاة مقاييس الحياة والتاريخ واللغة وعدّوه مخطئاً إذا جاءت معانيه مخالفة لذلك الواقع(13). كقول الشاعر الشهيد معياراً للصحة:
قال طاها.. من كنت مولاه حقاً
فعليّ.. مولاه حق اليقين.
الدين والخلق..
اتخذ الدين والخلق على مر العصور مقياساً تقاس به الأشياء.. فالجمال عند اليونان مرادف للصلاح والفضيلة ومثلهم الأعلى في الحياة.. وفي الفن هو الانضباط والاعتدال..(14)
وكذا عند العرب فقد عرفوا تأثير الشعر على الأخلاق والدين، ولذلك اعتبر القرآن من يتبع النوع الخليع من الشعر غاوياً ] والشعراء يتبعهم الغاوون* ألم ترانهم في كل واد يهيمون* وإنهم يقولون ما لا يفعلون[ (15)، وانكر رجال الدين هذا اللون من الشعر وحاربوه..(16) وقد وصف الشاعر الشهيد هذا الشعر بقوله:
من عهد آدم.. يغوي الشعر ملحمة الـ
شعوب.. حتى يصيب القاع بالقمم
ثم: استقال.. وقد أفنى ركائزه
وأفسد الكون، والتاريخ في ذمم
وقوله أيضاً:
أما تصابي المومياء.. وغمزة الـ
شمطاء.. فهي جنازة الشعراء
9) المقياس الإنساني..
كلما كان الشعر معبراً عن حقائق النفس الإنسانية كلما كان رائعاً قوياً واعتبر معناه سليماً لا عيب فيه..(17) وهذا المقياس يلتقي مع المقياس النفسي لأنه يعبر عن النفس فيؤثر فيها.. ويلتقي من زوايا أخرى مع مقياس الخلق والدين لأنهما يعبران عن رغبات النفس الإنسانية وشعورها الرفيع وطبيعتها السامية(18).
هل كانت تلك الطَرْقات السابقة كافية لتفتح لنا أبواب المسرّات على قلتها.. والعذابات على كثرتها في ديوان الشهيد حيث الثقوب تملأ القلب بحب الإنسان والممتلئ قهراً لاستلاب إنسانيته.. والنائحة أبداً على حفلة القتل التي تمارس ضده وضد الإسلام من أعدائه..
نطمح إلى هذا.. وندخل الآن إلى بنيانه الشعري نحاول أن نتلمس المفردات التي رافقها ورافقته في مسيرته الشعرية الحافلة..
يعكس شعر الشهيد صورة واضحة عن حقيقة الإيمان وتعاليم الإسلام، حيث للناس إلهاً واحداً لا شريك له، خلق العباد وأنزل عليهم الدين ووهبهم نعماً غامرة من فضله الأوفر، وهو سبحانه خالد باق مالك الملك يعلم الغيب والشهادة ويفعل ما يشاء وقد كتب على نفسه الرحمة واللطف والأنعام وكريم الصفات.. فالمرء يكدح في حياته ويتقلب في فنون عمله، لكن له رباً مهيمناً يعلم السر وأخفى وإنه لمجازيه على ما قدم يوم يأتيه فرداً ويشهد على نفسه بنفسه..
وعلى هدي حقيقة الإيمان مضى الشاعر الشهيد يطيل التأمل والتفكير في الحياة والإنسان والكون، فليست هذه الحياة إلا سراباً وغروراً وإن خير ما يدخره الإنسان إنما هو ما طاب من العمل ومن الكلم..
أما يطلقها البنون.. دنيئةً أم الدواهي ربك كناك(19).
وفي كتابه )العمل الأدبي( قسم الشاعر الشهيد مواد الشعور الأدبي إلى سبعة أقسام:
1) الله: آياته في الأنفس والكون كلها توقع على الحس البشري لتوجيهه إلى هذه الحقيقة الفاعلة في بنية الكون وبنية الحياة..(20) فهو منه البدء واليه الانتهاء.. كما في قوله:
ولكل مسيرهُ ولك المطلق تحت الثرى وفوق الفضاء(21)
2) الإنسان:
الإنسان يؤخذ كما هو ولا يؤخذ بعضه ويهمل بعضه حتى ينقلب عن حقيقته المفضلة إلى حقيقة مشوهة لا يعرف موقعها من الكون..
إن الإنسان المفضل على كثير من خلق الله، هو هذا الإنسان كما خلقه الله بجميع دوافعه ونوازعه وأشواقه وشهواته لأن الله لم يخلق مشوهاً طلب منه تشذيبه وإنما خلق كاملاً طلب منه الانطلاق في حدود ما خلق له لا في غير حدوده..(22)
كما عبر الشاعر الشهيد بقوله:
نفخ الله روحه في كيان أبجديات :تراب.. وماء
نفخ الله نفخة سميت روحاً بها الروح.. والهدى.. والرجاء
فغدى محور التقاء، تنادى في مداه، الغبراء.. والخضراء
وهو في سكرة التململ ما انقادت ولا استحكمت به الأعضاء
إنه قبل كل شيء... وفيما بعد .. إما هدى .. وإما غثاء(23).
فالإنسان في شعر الشهيد مخلوق أبدعه الله وأشهده منذ كان في عالم الذر إنما هو عبد لمولاه وقد كتب عليه قصر العمر وناط به المسؤولية وهو خلال هذه الرحلة قد يرتكس، إلا أن بإمكانه النهوض والاستقامة من جديد، ويتقلب على الإنسان في حياته الدنيا شدة ورخاء، وقوة وذبول وليس له في كل ذلك من الأمر شيء إن هو إلا قضاء واقع وقدر نافذ..
يقول شاعرنا الشهيد:
يا إله الأسماء والآلاء ردني بالبقاء لا بالفناء
أنت ركزتني ملاكاً وشيطاناً.. لا بقى مأرجح إلا رجاء
ويقول في القصيدة نفسها:
إن تراخى اشتكى عناء الرخاء أو تسامى اشتكى ارتفاع السماء(24)
3) الواقع:
على الأدب أن يصور اللحظات الشفافة واللحظات المعتمة أيضاً، لأن صراع الجسد حقيقة، وغلبة النوازع الفطرية على المثل حقيقة، ولكن ارتفاع الإنسان فوق نوازعه الفطرية حقيقة أيضاً، ومن الخطأ اغتيال حقيقة لمراعاة حقيقة أخرى بل اللازم جمع الحقائق كلها بلا تمييز حتى يتحقق الواقع الكامل(25).
يقول شاعرنا الشهيد:
أيها الإنسان يا أصل الضياء أنت – في أصلك – من أصل السماء
لك حالات تعادي ذاتها كصراعات بقاء وفناء
فإذا شئت وقود حارق وإذا شئت ولي الأولياء
فاندمج في الله تغدو عالماً واسعاً.. في مده الدنيا هباء(26)
4) القدر:
إذا اطمأن الإنسان إلى عدالة القدر وحكمته، لا يرهبه ولا يتوجس، فلا يرتبك إزاءه ولا يثور، بل يهدأ ويرضى وترتفع علاقة البغضاء والشحناء بين البشر وبين الله الذي هو مصدر القدر– تلك العلاقة التي لوثتها الوثنيات القديمة والحديثة وشوهتها أساطير الإغريق- لتحل محلها علاقة الحب والرضا من الجانبين (رضي الله عنهم ورضوا عنه)..(27).
5) العقيدة:
يكون الأدب الذي يتحدث عن سبحات العقيدة قمة الآداب الإنسانية حينما يؤدى أداءً صحيحاً، ولا يعني أنه من المفروض بالأدب الذي يسير على ضوء العقيدة أن يتحدث دائماً عن ذات العقيدة نفسها، وإنما نعني أن ينطلق على ضوئها لا في ظلمات المادية الحيوانية.. وبأن يتخذ من العقيدة قاعدتها حتى يصور كل شيء بذلك الأسلوب المتفتح الذي تصوره به العقيدة ليكون أدباً كونياً واسعاً يتكلم كما يتكلم العالم الواسع الجامع لا كما يلثغ الطفل الساذج المحدود..(28)
يقول الشاعر الشهيد:
أنا عندي حكمة الإيمان بالله المجيد
أنا عندي فكرة العرفان بالكون العنيد
فهو يفني كل شيء
ما عدا الإنسان والفعل الحميد
فأنشد الإنسان في نفسك تلقى ما تريد
وستبقى وتزيد..(29)
6) العاطفة:
الأدب الإسلامي إنما يكون أكثر واقعية وأصدق تعبيراً من بقية الآداب لأنه ينبثق من التصور الإسلامي الشامل للكون والحياة والإنسان، فيفسح المجال للوجدانات البشرية كلها من مشاعر الجنس وصور الصراع، ومظاهر المحبة والكراهية، ثم يضعها في مواقعها الخاصة من اللوحة ليرسم في بقية اللوحة بقية الطاقات والنوازع والأشواق، كما نجد نماذج هذا الأدب الرائع في القرآن ونهج البلاغة وبقية القطع الأدبية التي استندت إلى الفلسفة الإسلامية..(30).
7) الجمال:
جمال الإنسان يكون باندماجه في المجموعة الكونية التي يسودها النظام الدقيق، وحين تكون متوازنة متناسقة مترابطة متحركة، فإنه الجمال الكامل الذي تقيمه المقاييس الإنسانية الرفيعة.. والنظرة إلى الجمال الإنساني على هذا المستوى المستمد من جمال الكون كفيلة بتوسيع المفاهيم الجمالية في الإنسان وإطلاقها من حدودها الضيقة المعروفة(31)..
ومعلوم إن من واجب الشعراء أن يرتقوا بالمجتمع من حولهم لا أن يرتكسوا به، ومن يطالع أشعار الشهيد في أغراضه العديدة والمتنوعة يجده يرسل النصائح تترى لكي يتحلى الناس بمعيار الإنسان الصالح، ويتجنبوا الارتكاس في خصائص المرء غير الصالح.. وكان من إسهاماته في هذا المجال الإصلاحي طائفة من النقد الاجتماعي لبعض الحكام والانشقاق الديني والانحراف والميل عن الفطرة السوية وغيرها من آفات المجتمع..
يقول الشاعر الشهيد واصفاً حكام العراق:
الشعب الخائف
والحزب المتورط في الثار
والجيش الجرار بقمقمة السحار
والوزراء الأسرى
ورئيس الجمهورية بالإيجار
هذا كل عراق البعث
وهذا.. ما يطلبه الاستعمار..(32)
ويقول مخاطباً العراق مستتهفاً هممهم وبطولاتهم عبر التاريخ:
هل ماتت – فيك – تعاليم علي
وحسين؟
هل نسيت ظلمات التاريخ بطولات رجال
الدين؟
من عهد خليل الرحمن إلى شيخ
العشرين
أين المختار؟ فهذا ابن زياد يلتهم الأخضر.. واليابس كالتنين.. أين رجال البصرة والموصل
أين هتافات العمال.. و(هوسات)
الفلاحين؟
أصبحنا نحلم حتى بالذبح
ونهتف: ألف نعم.. حتى للتوابين
وتنام على السجّين(33)
فهو قد استلهم تلك الأسماء التي حضرت مكاناً لها في ذاكرة التاريخ فذكر إبراهيم الخليل)عليه السلام( المولود في أور وكيف قام بتحطيم الأصنام ووقف بوجه طغيان حكامه وسدنة الشرك والكفر.. مدوراً بالدم الطاهر الذي أريق في محراب الكوفة ثمناً غالياً لتعاليم الإسلام في سبيل بقائها.. ومثله الإمام الحسين )عليه السلام( في كربلاء حفاظاً على رسالة جده )صلى الله و عليه و آله و سلم( أمام تحريف الطواغيت وصولاً إلى ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني والتي كانت وقفة عز رائعة بوجه الطغيان حمل رايتها رجال الدين ومن خلفهم كافة فئات الشعب.. ومن الرموز الأخرى في قصيدته المختار الثقفي الذي أيقظ الثأر الراقد في الضمائر وحمل سيفه وخرج مطالباً بدم الحسين)عليه السلام( ولم يضع سيفه في غمده حتى استأصل شأفة جميع من اشترك في قتل الحسين)عليه السلام(..
فالأدب في معيار الشاعر الشهيد )ينبغي أن يكون عادلاً في توجيهه فيحارب التصورات والقيم المنحرفة والمسرفة لإقامة تصورات وقيم عادلة تنبثق من واقع البشر العادل لتوجه واقع البشر المنحرف أو المسرف(34).. من خلال طرق جميع الأغراض والمجالات التي تتيح لغة الشعر الدخول إليها فليس هناك ما هو محظور طالما أنه ينطلق من قاعدة فكرية رصينة لأن هدف الأدب هو توجيه الحياة وفق القاعدة الفكرية التي انطلق منها.. لأنه انفجار شاعر ينبثق عن نفس جاشت بشعور معين حتى الانفجار فلا يكون هنالك باب مغلق على الأدب ولا منطقة محرمة عليه بل مجاله كل المجالات ومسرحه كل المسارح، لأن الأدب كالحياة إذ هو مرآتها المعبر عنها فلا يستوعبه مذهب معين ولا هدف خاص((35).
المصادر
(1) حياة الشعر في الكوفة: ص658.
(2) قيم جديدة: ص83.
(3) دراسات في الأدب العربي: ص40.
(4) العمدة: ج1 ص73.
(5) ديوان الطغاة: قصيدة الإنسان الشيعي ص65.
(6) أسس النقد الأدبي: ص426.
(7) السبر الأدبي: ص78.
( الوساطة: ص316.
(9) العمدة: ج1 ص177.
(10) الإيضاح: ج3 ص3.
(11) المصدر نفسه: ص12.
(12) أسس النقد الأدبي: ص451.
(13) السبر الأدبي: ص13.
(14) النقد الجمالي: ص80.
(15) الشعراء: 224-226.
(16) السبر الأدبي: ص90.
(17) أسس النقد الأدبي: ص417.
(18) أسس النقد الأدبي: ص418.
(19) ديوان أنا وأنت: قصيدة أم الدواهي ص30.
(20) العمل الأدبي: ص135.
(21) ديوان أنا وأنت: قصيدة أنا وأنت ص9.
(22) العمل الأدبي: ص155.
(23) ديوان قصة البدء: قصيدة كينونة الإنسان الأول ص15.
(24) ديوان أنا وأنت: ص167.
(25) العمل الأدبي: ص167.
(26) ديوان أنا وأنت: قصيدة من أصل السماء ص18.
(27) العمل الأدبي: ص173.
(28) العمل الأدبي: ص181.
(29) ديوان أنا عندي: ص21.
(30) العمل الأدبي: ص195.
(31) المصدر السابق: ص204.
(32) ديوان الطغاة: قصيدة عراق البعث ص19.
(33) المصدر السابق.
(34) العمل الأدبي: ص223.
(35) المصدر السابق: ص224.
حيدر الجراح
قيل عن الشعر أنه ديوان العرب المفتوحة بواباته على عوالم الدهشة، والمشرعة نوافذه على جذاذات الروح ولوعة القلب.. ديوان العرب هذا، رافق الإنسان الساكن والمسكون فيه في حلّه وترحاله، وجاب معه رمال الصحراء وأفياءها، وصعد معه فوق تلالها، وهبط وأهبطه نحو قيعانها.. وكانت تلك الرفقة والمصاحبة تروّي عطشها قطرات الماء في عين تحوطها أشجار قليلة هي ملاذه من هجير الشمس ولفحها، ويقطع الطريق معه يحدو على جمله –وحيداً أو محاطاً بمجموعة من رفاقه وتردد الرمال صدى صوته- يا حادي العيس- وحين يلفّه الليل وتصبح الصحراء بحراً لجيّاً من الألغاز والأساطير والأشباح يحضن واحده الآخر، وعلى دفء النار المتوهجة، وحول فناجين القهوة الدائرة محاكية سواد الليل يقطعوه سمراً لذيذاً.. يتحاوران.. وتتساقط الكلمات ينابيع ماء مصفى يروي عطش الروح، وتختلط الأوصاف والأسماء..
فهناك امرأة مشتهاة تعشقها القلب ولم يتبق من عطرها غير بقايا طلل ينوح عليه الشاعر ويبثه أوجاعه.. يصرخ أمام الرمال التي تحيطه من كل جانب وتحاول أن تطمره وتطمر معه ذكرياته وأحلامه وماضيه وحاضره.. يصرخ ملتاعاً:
قفا نبك.. يا دار ميّة بالعلياء..
ولم تبتعد أغراض هذا الديوان عن المرأة.. الخمرة وعن الطلل.. الرحيل وعن الحكمة.. المثل أو عن القبيلة.. النسب.. وعلق العرب ديوانهم الذي صاغوه بالفطرة.. الممارسة على أستار الكعبة بعد أن رسموه بالذهب..
وعندما تفجرت ثورة الإسلام في جزيرة العرب واكتسحت أمامها أصنامهم ورؤاهم تفجر معها ديوانهم وترجم انفجارات هذه الثورة إلى كلمات تنضح بالولاء لهذه العقيدة الجديدة.. وظهرت أغراض عديدة منها الإسلام –التوحيد والنبي – الأمة والإيمان – الكفر والجنة – النار، وهذبت لغة الديوان وأصبحت تتعاطى مع كلمات القرآن وكلمات الرسول)صلى الله و عليه و آله و سلم(، وتؤرخ لأحداث تلك الثورة التي عصفت بالمسلمات والمقدسات التي كانت تبحث عن ثيات لها فوق رمال الصحراء.. وأنى يكون ثبات أساسه رمال متحركة؟.
وقد نهج الشعراء وخصوصاً منهم الذين تدربوا على معطيات الإسلام وتعاليمه على استلهام صور القرآن والحديث والقيم والمناسبات الإسلامية العديدة وتوظيفها صوراً حية ناطقة في شعرهم تفصح عن عمق التجذّر الذي أحدثته تلك التعاليم في نفوسهم، وبعد أن كان الشاعر العربي يطارح ملهمته القادمة من أودية عبقر أو الناهضة من حرائق الأحلام والأطياف الراحلة الغرام لكي تبوح له بأسرار قصيدته، أصبح الشاعر الإسلامي يسبّح الله في ملكوته، ويجوّد الصوت في قراءة آياته البينات لتعلمه لغة جديدة وثرّه ينهل منها وتنسكب على أوراقه وبين يديه معاني دافقة بهذا التوحد وهذا التفرد..
يقول الدكتور يوسف خليف واصفاً هذا التأثير: )كان هذا التأثير (الإسلامي) يظهر في الألفاظ والمعاني كما كان يظهر في الأساليب والصور((1).
وحول أثر الإسلام في تطور الشعر وأدوات الشاعر تقول الدكتورة بنت الشاطئالتطور الهام الذي حدث هو أن الإسلام أراد لشاعر القبيلة أن يصير شاعر الأمة فلم يهدر بهذا ذاتية الشاعر بل أراد أن ترحب فلا تعود محدودة بنطاق الأسرة أو القبيلة((2).
وقد استطاع أن يهتدي إلى هذه الحقيقة –حقيقة الأثر الذي أحدثه الإسلام على الشعر والشعراء- طائفة من المستشرقين فقال غوستاف فون غرنباوملم يمض جيلان على ظهور الإسلام حتى امتلأ الأدب العربي بالموضوعات وبصور التعبير المتصلة بالدوافع الدينية((3).
وقد أولع نقاد الشعر قديماً بدراسة ديوان العرب ووضعوا نظرياتهم حول الصورة –المعنى والصدق- الكذب وقالوا بأن أعذب الشعر أكذبه من خلال قراءاتهم المبتسرة والناقصة لأغراض الشعر المعروفة وتجاهلوا في نظرياتهم النقدية التي وضعوها – أو أنهم لم يلتفتوا إليه بالاهتمام الكافي – لشعر الثورة – الصحوة الذي انبثق عن صدق عذب لا تخالجه رنة كذب أو تزويق أو ممالاة...
والشعر باعتباره فناً إبداعياً على درجة رفيعة من الرقي والسمو فإن النقاد قد وضعوا عدداً من المقاييس للشكل والمعنى للحكم على جودته وثرائه من خلالها وسنحاول ذكر بعض تلك المقاييس بصورة سريعة:
1 - الصدق والكذب..
وحددوا الصدق بنوعين.. أولهما ما طابق الشاعر فه وقائع العالم الخارجي فيكون مصيباً فيما يكتب.. وثانيهما صدق مطابق للحالة النفسية التي يحياها الشاعر وهو صدق عاطفته أو بتعبير آخر الصدق الفني(4). كما تقرأ للشاعر الشهيد من ديوانه الطغاة وهو يصف الإنسان
الشيعي الذي هو نفسه..
أنا فكر لم يزرع..
أنا باب لم يشرع
أنا نبض.. لم يهجع
وبقايا حلم –كالنور- يجوب الأفق ولا يقنع
ويصارع كل الأجواء.. وكل الأشياء.. ولا يصرع
أنا دمع ينفر –كالبارود- وعرق يضرب كالمدفع
أنا وحي رسول.. أحرقه الطاغوت ولم يركع
أنا خبز فقير.. مات ولم يشبع
أنا جرح.. حاربه كل سلاطين الأتراك ولم يخنع(5).
2) المثالية والواقعية..
والمثالية هي ما يجب أن يكون بينهما الواقعية ما هو كائن.. والاتجاه العام عند نقاد العرب هو مؤاخذة الشاعر على رسم ما ينبغي أن يكون لا رسم ما هو كائن حقاً(6).
3) الاتباع والابتداع...
ونعني بهما من اتبع نهج القدامى في شكل القصيدة ومعانيها اعتبر اتباعياً لم يفارق عمود الشعر، وبالمقابل اعتبر مفارق عمود الشعر ابتداعياً(7).
والشاعر الشهيد قد نهج على الطريقتين في نظم الشعر فهو تارة اتباعياً في شكل قصيدته وتارة أخرى ينهج نحو الاتبداع والخروج عن النمط التقليدي للقصيدة العربية الاتباعية.
4) الوضوح والغموض..
في وضوح المعنى رأى نقاد العرب جودة الشعر، والرداءة في غموضه(.
5) الألفة والندرة..
وهو كون المعنى معروفاً لدى النقاد حيث لم يروا فضلاً لمن يجيء باللفظ المألوف عدا فضل النظام وحسن السبك ولكن المعاني المبتكرة هي التي تعطي القصيدة قيمتها عند النقاد(9)..
كقول الشاعر الشهيد:
لا تحاول غرقي بقطرة دمع
في دمي ألف دجلة وفرات
أو كقوله:
فمداد الأقلام نظماً.. ونثراً..
لا يساوي تكبيرة من شهيد..
6) المحسنات البديعية المعنوية..
عد النقاد منها الطباق وهو الجمع بين المعنيين المتقابلين في الجملة(10) والمقابلة وهي عدة طباقات متتالية.. ومراعاة النظير وهي الجمع في الكلام بين أمر وما يناسبه من غير تضاد(11) واستحسنوا المعنوي منها(12)... كقول الشاعر الشهيد:
لا تبكني.. فالموت بدء حياتي
وغداً.. سأولد عند فجر مماتي
7) الصحة والخطأ..
طالب نقاد العرب الشاعر بمراعاة مقاييس الحياة والتاريخ واللغة وعدّوه مخطئاً إذا جاءت معانيه مخالفة لذلك الواقع(13). كقول الشاعر الشهيد معياراً للصحة:
قال طاها.. من كنت مولاه حقاً
فعليّ.. مولاه حق اليقين.
الدين والخلق..
اتخذ الدين والخلق على مر العصور مقياساً تقاس به الأشياء.. فالجمال عند اليونان مرادف للصلاح والفضيلة ومثلهم الأعلى في الحياة.. وفي الفن هو الانضباط والاعتدال..(14)
وكذا عند العرب فقد عرفوا تأثير الشعر على الأخلاق والدين، ولذلك اعتبر القرآن من يتبع النوع الخليع من الشعر غاوياً ] والشعراء يتبعهم الغاوون* ألم ترانهم في كل واد يهيمون* وإنهم يقولون ما لا يفعلون[ (15)، وانكر رجال الدين هذا اللون من الشعر وحاربوه..(16) وقد وصف الشاعر الشهيد هذا الشعر بقوله:
من عهد آدم.. يغوي الشعر ملحمة الـ
شعوب.. حتى يصيب القاع بالقمم
ثم: استقال.. وقد أفنى ركائزه
وأفسد الكون، والتاريخ في ذمم
وقوله أيضاً:
أما تصابي المومياء.. وغمزة الـ
شمطاء.. فهي جنازة الشعراء
9) المقياس الإنساني..
كلما كان الشعر معبراً عن حقائق النفس الإنسانية كلما كان رائعاً قوياً واعتبر معناه سليماً لا عيب فيه..(17) وهذا المقياس يلتقي مع المقياس النفسي لأنه يعبر عن النفس فيؤثر فيها.. ويلتقي من زوايا أخرى مع مقياس الخلق والدين لأنهما يعبران عن رغبات النفس الإنسانية وشعورها الرفيع وطبيعتها السامية(18).
هل كانت تلك الطَرْقات السابقة كافية لتفتح لنا أبواب المسرّات على قلتها.. والعذابات على كثرتها في ديوان الشهيد حيث الثقوب تملأ القلب بحب الإنسان والممتلئ قهراً لاستلاب إنسانيته.. والنائحة أبداً على حفلة القتل التي تمارس ضده وضد الإسلام من أعدائه..
نطمح إلى هذا.. وندخل الآن إلى بنيانه الشعري نحاول أن نتلمس المفردات التي رافقها ورافقته في مسيرته الشعرية الحافلة..
يعكس شعر الشهيد صورة واضحة عن حقيقة الإيمان وتعاليم الإسلام، حيث للناس إلهاً واحداً لا شريك له، خلق العباد وأنزل عليهم الدين ووهبهم نعماً غامرة من فضله الأوفر، وهو سبحانه خالد باق مالك الملك يعلم الغيب والشهادة ويفعل ما يشاء وقد كتب على نفسه الرحمة واللطف والأنعام وكريم الصفات.. فالمرء يكدح في حياته ويتقلب في فنون عمله، لكن له رباً مهيمناً يعلم السر وأخفى وإنه لمجازيه على ما قدم يوم يأتيه فرداً ويشهد على نفسه بنفسه..
وعلى هدي حقيقة الإيمان مضى الشاعر الشهيد يطيل التأمل والتفكير في الحياة والإنسان والكون، فليست هذه الحياة إلا سراباً وغروراً وإن خير ما يدخره الإنسان إنما هو ما طاب من العمل ومن الكلم..
أما يطلقها البنون.. دنيئةً أم الدواهي ربك كناك(19).
وفي كتابه )العمل الأدبي( قسم الشاعر الشهيد مواد الشعور الأدبي إلى سبعة أقسام:
1) الله: آياته في الأنفس والكون كلها توقع على الحس البشري لتوجيهه إلى هذه الحقيقة الفاعلة في بنية الكون وبنية الحياة..(20) فهو منه البدء واليه الانتهاء.. كما في قوله:
ولكل مسيرهُ ولك المطلق تحت الثرى وفوق الفضاء(21)
2) الإنسان:
الإنسان يؤخذ كما هو ولا يؤخذ بعضه ويهمل بعضه حتى ينقلب عن حقيقته المفضلة إلى حقيقة مشوهة لا يعرف موقعها من الكون..
إن الإنسان المفضل على كثير من خلق الله، هو هذا الإنسان كما خلقه الله بجميع دوافعه ونوازعه وأشواقه وشهواته لأن الله لم يخلق مشوهاً طلب منه تشذيبه وإنما خلق كاملاً طلب منه الانطلاق في حدود ما خلق له لا في غير حدوده..(22)
كما عبر الشاعر الشهيد بقوله:
نفخ الله روحه في كيان أبجديات :تراب.. وماء
نفخ الله نفخة سميت روحاً بها الروح.. والهدى.. والرجاء
فغدى محور التقاء، تنادى في مداه، الغبراء.. والخضراء
وهو في سكرة التململ ما انقادت ولا استحكمت به الأعضاء
إنه قبل كل شيء... وفيما بعد .. إما هدى .. وإما غثاء(23).
فالإنسان في شعر الشهيد مخلوق أبدعه الله وأشهده منذ كان في عالم الذر إنما هو عبد لمولاه وقد كتب عليه قصر العمر وناط به المسؤولية وهو خلال هذه الرحلة قد يرتكس، إلا أن بإمكانه النهوض والاستقامة من جديد، ويتقلب على الإنسان في حياته الدنيا شدة ورخاء، وقوة وذبول وليس له في كل ذلك من الأمر شيء إن هو إلا قضاء واقع وقدر نافذ..
يقول شاعرنا الشهيد:
يا إله الأسماء والآلاء ردني بالبقاء لا بالفناء
أنت ركزتني ملاكاً وشيطاناً.. لا بقى مأرجح إلا رجاء
ويقول في القصيدة نفسها:
إن تراخى اشتكى عناء الرخاء أو تسامى اشتكى ارتفاع السماء(24)
3) الواقع:
على الأدب أن يصور اللحظات الشفافة واللحظات المعتمة أيضاً، لأن صراع الجسد حقيقة، وغلبة النوازع الفطرية على المثل حقيقة، ولكن ارتفاع الإنسان فوق نوازعه الفطرية حقيقة أيضاً، ومن الخطأ اغتيال حقيقة لمراعاة حقيقة أخرى بل اللازم جمع الحقائق كلها بلا تمييز حتى يتحقق الواقع الكامل(25).
يقول شاعرنا الشهيد:
أيها الإنسان يا أصل الضياء أنت – في أصلك – من أصل السماء
لك حالات تعادي ذاتها كصراعات بقاء وفناء
فإذا شئت وقود حارق وإذا شئت ولي الأولياء
فاندمج في الله تغدو عالماً واسعاً.. في مده الدنيا هباء(26)
4) القدر:
إذا اطمأن الإنسان إلى عدالة القدر وحكمته، لا يرهبه ولا يتوجس، فلا يرتبك إزاءه ولا يثور، بل يهدأ ويرضى وترتفع علاقة البغضاء والشحناء بين البشر وبين الله الذي هو مصدر القدر– تلك العلاقة التي لوثتها الوثنيات القديمة والحديثة وشوهتها أساطير الإغريق- لتحل محلها علاقة الحب والرضا من الجانبين (رضي الله عنهم ورضوا عنه)..(27).
5) العقيدة:
يكون الأدب الذي يتحدث عن سبحات العقيدة قمة الآداب الإنسانية حينما يؤدى أداءً صحيحاً، ولا يعني أنه من المفروض بالأدب الذي يسير على ضوء العقيدة أن يتحدث دائماً عن ذات العقيدة نفسها، وإنما نعني أن ينطلق على ضوئها لا في ظلمات المادية الحيوانية.. وبأن يتخذ من العقيدة قاعدتها حتى يصور كل شيء بذلك الأسلوب المتفتح الذي تصوره به العقيدة ليكون أدباً كونياً واسعاً يتكلم كما يتكلم العالم الواسع الجامع لا كما يلثغ الطفل الساذج المحدود..(28)
يقول الشاعر الشهيد:
أنا عندي حكمة الإيمان بالله المجيد
أنا عندي فكرة العرفان بالكون العنيد
فهو يفني كل شيء
ما عدا الإنسان والفعل الحميد
فأنشد الإنسان في نفسك تلقى ما تريد
وستبقى وتزيد..(29)
6) العاطفة:
الأدب الإسلامي إنما يكون أكثر واقعية وأصدق تعبيراً من بقية الآداب لأنه ينبثق من التصور الإسلامي الشامل للكون والحياة والإنسان، فيفسح المجال للوجدانات البشرية كلها من مشاعر الجنس وصور الصراع، ومظاهر المحبة والكراهية، ثم يضعها في مواقعها الخاصة من اللوحة ليرسم في بقية اللوحة بقية الطاقات والنوازع والأشواق، كما نجد نماذج هذا الأدب الرائع في القرآن ونهج البلاغة وبقية القطع الأدبية التي استندت إلى الفلسفة الإسلامية..(30).
7) الجمال:
جمال الإنسان يكون باندماجه في المجموعة الكونية التي يسودها النظام الدقيق، وحين تكون متوازنة متناسقة مترابطة متحركة، فإنه الجمال الكامل الذي تقيمه المقاييس الإنسانية الرفيعة.. والنظرة إلى الجمال الإنساني على هذا المستوى المستمد من جمال الكون كفيلة بتوسيع المفاهيم الجمالية في الإنسان وإطلاقها من حدودها الضيقة المعروفة(31)..
ومعلوم إن من واجب الشعراء أن يرتقوا بالمجتمع من حولهم لا أن يرتكسوا به، ومن يطالع أشعار الشهيد في أغراضه العديدة والمتنوعة يجده يرسل النصائح تترى لكي يتحلى الناس بمعيار الإنسان الصالح، ويتجنبوا الارتكاس في خصائص المرء غير الصالح.. وكان من إسهاماته في هذا المجال الإصلاحي طائفة من النقد الاجتماعي لبعض الحكام والانشقاق الديني والانحراف والميل عن الفطرة السوية وغيرها من آفات المجتمع..
يقول الشاعر الشهيد واصفاً حكام العراق:
الشعب الخائف
والحزب المتورط في الثار
والجيش الجرار بقمقمة السحار
والوزراء الأسرى
ورئيس الجمهورية بالإيجار
هذا كل عراق البعث
وهذا.. ما يطلبه الاستعمار..(32)
ويقول مخاطباً العراق مستتهفاً هممهم وبطولاتهم عبر التاريخ:
هل ماتت – فيك – تعاليم علي
وحسين؟
هل نسيت ظلمات التاريخ بطولات رجال
الدين؟
من عهد خليل الرحمن إلى شيخ
العشرين
أين المختار؟ فهذا ابن زياد يلتهم الأخضر.. واليابس كالتنين.. أين رجال البصرة والموصل
أين هتافات العمال.. و(هوسات)
الفلاحين؟
أصبحنا نحلم حتى بالذبح
ونهتف: ألف نعم.. حتى للتوابين
وتنام على السجّين(33)
فهو قد استلهم تلك الأسماء التي حضرت مكاناً لها في ذاكرة التاريخ فذكر إبراهيم الخليل)عليه السلام( المولود في أور وكيف قام بتحطيم الأصنام ووقف بوجه طغيان حكامه وسدنة الشرك والكفر.. مدوراً بالدم الطاهر الذي أريق في محراب الكوفة ثمناً غالياً لتعاليم الإسلام في سبيل بقائها.. ومثله الإمام الحسين )عليه السلام( في كربلاء حفاظاً على رسالة جده )صلى الله و عليه و آله و سلم( أمام تحريف الطواغيت وصولاً إلى ثورة العشرين ضد الاستعمار البريطاني والتي كانت وقفة عز رائعة بوجه الطغيان حمل رايتها رجال الدين ومن خلفهم كافة فئات الشعب.. ومن الرموز الأخرى في قصيدته المختار الثقفي الذي أيقظ الثأر الراقد في الضمائر وحمل سيفه وخرج مطالباً بدم الحسين)عليه السلام( ولم يضع سيفه في غمده حتى استأصل شأفة جميع من اشترك في قتل الحسين)عليه السلام(..
فالأدب في معيار الشاعر الشهيد )ينبغي أن يكون عادلاً في توجيهه فيحارب التصورات والقيم المنحرفة والمسرفة لإقامة تصورات وقيم عادلة تنبثق من واقع البشر العادل لتوجه واقع البشر المنحرف أو المسرف(34).. من خلال طرق جميع الأغراض والمجالات التي تتيح لغة الشعر الدخول إليها فليس هناك ما هو محظور طالما أنه ينطلق من قاعدة فكرية رصينة لأن هدف الأدب هو توجيه الحياة وفق القاعدة الفكرية التي انطلق منها.. لأنه انفجار شاعر ينبثق عن نفس جاشت بشعور معين حتى الانفجار فلا يكون هنالك باب مغلق على الأدب ولا منطقة محرمة عليه بل مجاله كل المجالات ومسرحه كل المسارح، لأن الأدب كالحياة إذ هو مرآتها المعبر عنها فلا يستوعبه مذهب معين ولا هدف خاص((35).
المصادر
(1) حياة الشعر في الكوفة: ص658.
(2) قيم جديدة: ص83.
(3) دراسات في الأدب العربي: ص40.
(4) العمدة: ج1 ص73.
(5) ديوان الطغاة: قصيدة الإنسان الشيعي ص65.
(6) أسس النقد الأدبي: ص426.
(7) السبر الأدبي: ص78.
( الوساطة: ص316.
(9) العمدة: ج1 ص177.
(10) الإيضاح: ج3 ص3.
(11) المصدر نفسه: ص12.
(12) أسس النقد الأدبي: ص451.
(13) السبر الأدبي: ص13.
(14) النقد الجمالي: ص80.
(15) الشعراء: 224-226.
(16) السبر الأدبي: ص90.
(17) أسس النقد الأدبي: ص417.
(18) أسس النقد الأدبي: ص418.
(19) ديوان أنا وأنت: قصيدة أم الدواهي ص30.
(20) العمل الأدبي: ص135.
(21) ديوان أنا وأنت: قصيدة أنا وأنت ص9.
(22) العمل الأدبي: ص155.
(23) ديوان قصة البدء: قصيدة كينونة الإنسان الأول ص15.
(24) ديوان أنا وأنت: ص167.
(25) العمل الأدبي: ص167.
(26) ديوان أنا وأنت: قصيدة من أصل السماء ص18.
(27) العمل الأدبي: ص173.
(28) العمل الأدبي: ص181.
(29) ديوان أنا عندي: ص21.
(30) العمل الأدبي: ص195.
(31) المصدر السابق: ص204.
(32) ديوان الطغاة: قصيدة عراق البعث ص19.
(33) المصدر السابق.
(34) العمل الأدبي: ص223.
(35) المصدر السابق: ص224.