الدار وأهلها
يردد بيت قيس ابن الملوح: "وما حبّ الديار شغفن قلبي/ ولكن حبّ من سكن الديارا"، ومثله بيت الشاعر أسامة ابن منقذ، الشاعر الذي عاش في عصر الدولة الأيوبية القائل: «وما كنت أهوى الدار إلا لأهلها/ على الدار بعد الظاعنين سلام»، وهو نفسه البيت الذي ألهم نزار قباني في قوله: «ومَا كنتُ أَهوى الدارَ إلا بأَهلها/ على الدار بعد الراحلِينَ سلامُ/ إن كنتَ مثلي للأحبّة فَاقداً/ أَو فِي فؤادك لوعة وغرامُ/ قفْ في ديارِ الظاعنين ونادها/ يا دارُ ما صنعتْ بِك الأيامُ»، وليس بعيداً عن هذا قول محمود درويش في قصيدته «لماذا تركت الحصان وحيداً»، التي تحكي صفحة من التغريبة الفلسطينية الممتدة، في حوارية بين الابن وأبيه: «لماذا تركت الحصان وحيداً؟/ - لكي يؤنس البيت، يا ولدي،/ فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها».
والديار ليست البيوت وحدها، وإنما المدن والبلدات أيضاً. ذاكرة الأمكنة يُشكّلها ويعيشها البشر. نحنّ إلى المكان إذا ارتبط بذاكرة ما جمعتنا فيه مع من نحبّ. غير أن ما نود الوقوف عنده اليوم ليس الحنين إلى الديار وأهلها، وإنما تفريق صاغه طه حسين عن صورتين للمدينة التي عاش فيها سنوات، وفيها درس وأحبّ وتزوج امرأة من أهلها، وظلّ دائم التردد عليها حتى بعد عودته لوطنه مصر. الصورة الأولى هي لباريس الشتاء، لا بل غالبية فصول السنة، والصورة الثانية هي لباريس الصيف، وهو تفريق يعنينا لأنه على صلة بمقولة إن الأمكنة هي البشر.
تفريق طه حسين هذا جاء في مقاله «أدب الصيف»، وفيه قال إن الفرنسيين سيظلون يكتبون بلا سأم في وصف عاصمة بلادهم كلما أقبل الصيف، حين تخلو العاصمة من أهلها الباريسيين، وتستعد للقاء زوّارها. القاطنون في باريس أعلم منا بالطبع ما إذا كان هذا الأمر مستمراً كما كان في الزمن الذي كتب فيه العميد مقاله، أم تراه تغيّر، حيث ترسل المدينة أهلها إلى الجبل والبحر، وتستقبل «الغرباء» من أهالي الأقاليم أو من أهالي البلدان الأخرى القريبة أو البعيدة، حيث كان الفرنسيون، وربما لا يزالون، يصفون شكل المدينة الذي يتغير ويختلف بتغيّر المندفعين في شوارعها والمزدحمين على «قهواتها» وأنديتها.
ليس هذا فقط ما قاله طه حسين، بل تناول أيضاً حتى تغيّر طريقة نطق اللغة الفرنسية في باريس، فهي في الجزء الأكبر من العام فرنسية باريسية، وهي في الصيف فرنسية إقليمية أو فرنسية أجنبية. ولا يخفي العميد شفقته على «البائسين» من أهالي باريس، خاصة أولئك الفقراء أو الذين ينتمون إلى الدرجات المتدنية من الطبقة الوسطى الذين تضطرهم ظروف الحياة إلى أن يبقوا في مدينتهم حتى حين يغادرها أهلها إلى المصائف، حيث لا حول لهم ولا قوّة.
https://www.alkhaleej.ae/2024-02-28/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%87%D8%A7/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7
يردد بيت قيس ابن الملوح: "وما حبّ الديار شغفن قلبي/ ولكن حبّ من سكن الديارا"، ومثله بيت الشاعر أسامة ابن منقذ، الشاعر الذي عاش في عصر الدولة الأيوبية القائل: «وما كنت أهوى الدار إلا لأهلها/ على الدار بعد الظاعنين سلام»، وهو نفسه البيت الذي ألهم نزار قباني في قوله: «ومَا كنتُ أَهوى الدارَ إلا بأَهلها/ على الدار بعد الراحلِينَ سلامُ/ إن كنتَ مثلي للأحبّة فَاقداً/ أَو فِي فؤادك لوعة وغرامُ/ قفْ في ديارِ الظاعنين ونادها/ يا دارُ ما صنعتْ بِك الأيامُ»، وليس بعيداً عن هذا قول محمود درويش في قصيدته «لماذا تركت الحصان وحيداً»، التي تحكي صفحة من التغريبة الفلسطينية الممتدة، في حوارية بين الابن وأبيه: «لماذا تركت الحصان وحيداً؟/ - لكي يؤنس البيت، يا ولدي،/ فالبيوت تموت إذا غاب سكّانها».
والديار ليست البيوت وحدها، وإنما المدن والبلدات أيضاً. ذاكرة الأمكنة يُشكّلها ويعيشها البشر. نحنّ إلى المكان إذا ارتبط بذاكرة ما جمعتنا فيه مع من نحبّ. غير أن ما نود الوقوف عنده اليوم ليس الحنين إلى الديار وأهلها، وإنما تفريق صاغه طه حسين عن صورتين للمدينة التي عاش فيها سنوات، وفيها درس وأحبّ وتزوج امرأة من أهلها، وظلّ دائم التردد عليها حتى بعد عودته لوطنه مصر. الصورة الأولى هي لباريس الشتاء، لا بل غالبية فصول السنة، والصورة الثانية هي لباريس الصيف، وهو تفريق يعنينا لأنه على صلة بمقولة إن الأمكنة هي البشر.
تفريق طه حسين هذا جاء في مقاله «أدب الصيف»، وفيه قال إن الفرنسيين سيظلون يكتبون بلا سأم في وصف عاصمة بلادهم كلما أقبل الصيف، حين تخلو العاصمة من أهلها الباريسيين، وتستعد للقاء زوّارها. القاطنون في باريس أعلم منا بالطبع ما إذا كان هذا الأمر مستمراً كما كان في الزمن الذي كتب فيه العميد مقاله، أم تراه تغيّر، حيث ترسل المدينة أهلها إلى الجبل والبحر، وتستقبل «الغرباء» من أهالي الأقاليم أو من أهالي البلدان الأخرى القريبة أو البعيدة، حيث كان الفرنسيون، وربما لا يزالون، يصفون شكل المدينة الذي يتغير ويختلف بتغيّر المندفعين في شوارعها والمزدحمين على «قهواتها» وأنديتها.
ليس هذا فقط ما قاله طه حسين، بل تناول أيضاً حتى تغيّر طريقة نطق اللغة الفرنسية في باريس، فهي في الجزء الأكبر من العام فرنسية باريسية، وهي في الصيف فرنسية إقليمية أو فرنسية أجنبية. ولا يخفي العميد شفقته على «البائسين» من أهالي باريس، خاصة أولئك الفقراء أو الذين ينتمون إلى الدرجات المتدنية من الطبقة الوسطى الذين تضطرهم ظروف الحياة إلى أن يبقوا في مدينتهم حتى حين يغادرها أهلها إلى المصائف، حيث لا حول لهم ولا قوّة.
https://www.alkhaleej.ae/2024-02-28/%D8%A7%D9%84%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D9%88%D8%A3%D9%87%D9%84%D9%87%D8%A7/%D8%B4%D9%8A%D8%A1-%D9%85%D8%A7/%D8%A7%D9%84%D8%B1%D8%A3%D9%8A-%D8%B2%D9%88%D8%A7%D9%8A%D8%A7