مَنْ أدخَل «سيارة الموت» إلى الكَرَّادة؟!
محمد عبدالله محمد
في العام 2007م جاء رجل بريطاني إلى العراق اسمه جيم ماكورميك. كان ضخم الجثة وعيناه زرقاوان، يرمق بهما مَنْ يُصادفه بنظرات حادّة. أقنع جيم الحكومة العراقية آنذاك أنهم إذا ما أرادوا أن يُجنِّبوا شعبهم ويلات السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، فإنّ بإمكانهم أن يشتروا مُنتَجَه من جهاز أي دي إي 651 الكاشف للمتفجرات والذي تُصنِّعه شركة أي تي سي إس.
قال لهم إن هذا الجهاز سهل وفعَّال، حيث يعمل ببطاقات خاصة مُبَرمَجة، وبطريقة مُحاكِية لحركة حامله كي يُولِّد طاقة ذاتية لعمله. كان العراق حينها يحترق يومياً بفعل تفجيرات الموت التي يفور لهبها في الأسواق والشوارع المزدحمة. قَبِلَت بغداد العرض واشترت منه أجهزة بقيمة 120 مليون دولار، وبدأ توزيعها على المفارز ونقاط التفتيش وعلى الحدود والطرق الجانبية.
بعد عام من إتمام هذه الصفقة، وشراء العراق للآلاف من الـ أي دي إي بلغ عدد القتلى العراقيين أكثر من 7000 قتيل. استمر الحال حتى العام 2013م حين وصل عدد القتلى فيه 7818 قتيلاً و17981 جريحاً، وهي الأرقام الأكثر دموية منذ العام 2008م. قبل هذه الأرقام اكتشف العراق أنه خُدِعَ شرّ خديعة من ذلك الرجل، الذي أدانته هيئة محلفين بمحكمة أولد بيلي البريطانية بتهمة الاحتيال والتزوير، بعد أن جنى ملايين الجنيهات الأسترالية من خلال بيعه العراق أجهزة غير فعّالة.
بل من الغرابة أن نعلم بأنّ قوات الأمن العراقية تنبّهت إلى أن أجهزة رَصْد المتفجّرات تلك كان يُمكن التحايل عليها بأشياء بدائية وبسيطة، حيث وبُمجرّد تشغيل «بلوتوث» الهاتف النقّال، أو بنفثة عطر واحدة تجعل من ذلك الجهاز يصمت ولا يميّز بين الأشياء! وما زاد من تعقيد الأمر هو أن حامله وبمجرّد أن يُغيّر من مسار يده بشكل متباين مع نقطة بداية المسح، يعجز الجهاز عن ضبط ورصد أي إشارات تصدر من جسم غريب قابل للانفجار.
وفي العام 2014م أعلن مجلس محافظة بغداد أنه خصّص 30 مليار دينار (أكثر من 25 مليون دولار) وذلك لشراء «سيارات سونار لكشف المتفجرات عن بُعد، يتم توزيعها على السيطرات المتركزة في أطراف العاصمة» وهي أجهزة (كما قِيْل) لا تُصدِر إشارات تنبيه كي لا يتفطّن لها الإرهابيون، ما يُمكّن الشرطة من تطويق المشتبه به والحيلولة دون وصوله للهدف» لكن كل ذلك لم ينفع.
اليوم، يُعَاد الحديث من جديد عن «الأجهزة المعطوبة» في العراق بشتى أصنافها، التي لا تستطيع أن تُوقِف «ليس حزاماً ناسفاً» بل شاحنة تبريد تأتي سيراً من خارج بغداد (كما يقولون)، ولمدة ساعة كاملة، ثم تدخل إلى الشوارع الرئيسة فالفرعية إلى أن تتموضع في سوق الكرادة الشرقية وسط العاصمة (بغداد) لتقتل 250 شخصاً وتصيب أكثر من ٢٠٠ في تفجيرين وقعا فيها.
نحن اليوم نناقش ذلك بمزيد من الجِدِّية دون أن نبيع الحكومة العراقية كلاماً ولا تنظيراً، مقدّرين الوضع الأمني الصعب هناك، لكن لنستفهم بشأن ما يجري بما هو أبعد من معطوبية تلك الأجهزة. دعونا نطرح التالي: العاصمة بغداد تقع أساساً في منطقة منبسطة في العموم، تسهل مراقبتها جيداً، كونها لا تحتوي مكامن تخَفٍّ طبيعية تُسهِّل دخول الإرهابيين أو اتخاذها كبيوت إيواء ثابتة، وهي ظروف تُمكِّن «حتماً» أجهزة الرصد الأمنية العراقية من أن تعمل بصورة جيدة.
ولو أخذنا منطقة الكرادة الشرقية التي وقع فيها التفجير سنرى أن هذه الشاحنة إنْ كانت قد جاءت من الجهة الغربية فهي بالضرورة قد مرّت من شارع المصافي فجسر الحسين كي تعبر نهر دجلة. كما يلزم مرورها بحيِّ الجمهورية والشرطة، وقبله شارع كربلاء بغداد وكامل الضفة الغربية له سواء شارع الخلفاء الراشدين أو الخيزران وبقية الشوارع المؤدية حتى المثلث الضامن لمطار بغداد.
ولو أٌحصِيْت الشوارع والأزقة والأحياء المحيطة بالمنطقة لوصلت إلى المئات، الأمر الذي يجعل النقاط الظاهرة أو السرية بحجم ذلك التفريع من حيث العدد، وهو ما يجعل التساؤل كبيراً. فإذا كان الإرهابي قد مَرَّ دون التفاتة من نقطة واحدة، فإنّ الإجراء يقتضي ألاّ يمر في النقطة الثانية أو الثالثة حتى النقطة الـ 300 ولو باكتشاف بشري، لكن ومن خلال الحادث، يظهر أنه مرَّ وتموضع دون حواجز ولا معوقات وهو لُبّ الاستفهام.
هنا أمامنا (وبعد تصوّر عطب الأجهزة المتتبعة لمواد التفجير) أن نفكر جدياً أن هناك ظهيراً على الأرض من الفاسدين يقوم بتمرير الإرهابيين عمداً إلى الأسواق والشوارع المكتظة ولا احتمال آخر «رئيسي» غير ذلك. فإذا كانت العديد من اللجان البرلمانية العراقية قد أظهرت حجم الفساد الذي صاحب عمليات شراء تلك الأجهزة، فيجب أن نعلم أن ذلك الفساد «قد» لا يتورّع في تمرير سيارات الموت كي تقتل الناس.
هنا مسألة مفصلية تبيِّن مدى خطورة وحجم ومدى الفساد الذي وصل في العراق، إلى الحد الذي يمكن أن يُتَاجَر به الدَّم الحرام. وإلاّ فالظروف المحيطة ببغداد أفضل بألف مرة من تلك الظروف المحيطة بالعاصمة الأفغانية كابل (أو مدينة مزار شريف) أو السورية دمشق (أو مدينة اللاذقية) بل وحتى بالعاصمة الصومالية (مقديشو) لكن لم تستطع السيارات المفخخة أن تصل إليها كما وصل الحال في العراق. وهو أمر جدير بالتأمُّل فعلاً.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 5052 - الخميس 07 يوليو 2016م
محمد عبدالله محمد
في العام 2007م جاء رجل بريطاني إلى العراق اسمه جيم ماكورميك. كان ضخم الجثة وعيناه زرقاوان، يرمق بهما مَنْ يُصادفه بنظرات حادّة. أقنع جيم الحكومة العراقية آنذاك أنهم إذا ما أرادوا أن يُجنِّبوا شعبهم ويلات السيارات المفخخة والعبوات الناسفة، فإنّ بإمكانهم أن يشتروا مُنتَجَه من جهاز أي دي إي 651 الكاشف للمتفجرات والذي تُصنِّعه شركة أي تي سي إس.
قال لهم إن هذا الجهاز سهل وفعَّال، حيث يعمل ببطاقات خاصة مُبَرمَجة، وبطريقة مُحاكِية لحركة حامله كي يُولِّد طاقة ذاتية لعمله. كان العراق حينها يحترق يومياً بفعل تفجيرات الموت التي يفور لهبها في الأسواق والشوارع المزدحمة. قَبِلَت بغداد العرض واشترت منه أجهزة بقيمة 120 مليون دولار، وبدأ توزيعها على المفارز ونقاط التفتيش وعلى الحدود والطرق الجانبية.
بعد عام من إتمام هذه الصفقة، وشراء العراق للآلاف من الـ أي دي إي بلغ عدد القتلى العراقيين أكثر من 7000 قتيل. استمر الحال حتى العام 2013م حين وصل عدد القتلى فيه 7818 قتيلاً و17981 جريحاً، وهي الأرقام الأكثر دموية منذ العام 2008م. قبل هذه الأرقام اكتشف العراق أنه خُدِعَ شرّ خديعة من ذلك الرجل، الذي أدانته هيئة محلفين بمحكمة أولد بيلي البريطانية بتهمة الاحتيال والتزوير، بعد أن جنى ملايين الجنيهات الأسترالية من خلال بيعه العراق أجهزة غير فعّالة.
بل من الغرابة أن نعلم بأنّ قوات الأمن العراقية تنبّهت إلى أن أجهزة رَصْد المتفجّرات تلك كان يُمكن التحايل عليها بأشياء بدائية وبسيطة، حيث وبُمجرّد تشغيل «بلوتوث» الهاتف النقّال، أو بنفثة عطر واحدة تجعل من ذلك الجهاز يصمت ولا يميّز بين الأشياء! وما زاد من تعقيد الأمر هو أن حامله وبمجرّد أن يُغيّر من مسار يده بشكل متباين مع نقطة بداية المسح، يعجز الجهاز عن ضبط ورصد أي إشارات تصدر من جسم غريب قابل للانفجار.
وفي العام 2014م أعلن مجلس محافظة بغداد أنه خصّص 30 مليار دينار (أكثر من 25 مليون دولار) وذلك لشراء «سيارات سونار لكشف المتفجرات عن بُعد، يتم توزيعها على السيطرات المتركزة في أطراف العاصمة» وهي أجهزة (كما قِيْل) لا تُصدِر إشارات تنبيه كي لا يتفطّن لها الإرهابيون، ما يُمكّن الشرطة من تطويق المشتبه به والحيلولة دون وصوله للهدف» لكن كل ذلك لم ينفع.
اليوم، يُعَاد الحديث من جديد عن «الأجهزة المعطوبة» في العراق بشتى أصنافها، التي لا تستطيع أن تُوقِف «ليس حزاماً ناسفاً» بل شاحنة تبريد تأتي سيراً من خارج بغداد (كما يقولون)، ولمدة ساعة كاملة، ثم تدخل إلى الشوارع الرئيسة فالفرعية إلى أن تتموضع في سوق الكرادة الشرقية وسط العاصمة (بغداد) لتقتل 250 شخصاً وتصيب أكثر من ٢٠٠ في تفجيرين وقعا فيها.
نحن اليوم نناقش ذلك بمزيد من الجِدِّية دون أن نبيع الحكومة العراقية كلاماً ولا تنظيراً، مقدّرين الوضع الأمني الصعب هناك، لكن لنستفهم بشأن ما يجري بما هو أبعد من معطوبية تلك الأجهزة. دعونا نطرح التالي: العاصمة بغداد تقع أساساً في منطقة منبسطة في العموم، تسهل مراقبتها جيداً، كونها لا تحتوي مكامن تخَفٍّ طبيعية تُسهِّل دخول الإرهابيين أو اتخاذها كبيوت إيواء ثابتة، وهي ظروف تُمكِّن «حتماً» أجهزة الرصد الأمنية العراقية من أن تعمل بصورة جيدة.
ولو أخذنا منطقة الكرادة الشرقية التي وقع فيها التفجير سنرى أن هذه الشاحنة إنْ كانت قد جاءت من الجهة الغربية فهي بالضرورة قد مرّت من شارع المصافي فجسر الحسين كي تعبر نهر دجلة. كما يلزم مرورها بحيِّ الجمهورية والشرطة، وقبله شارع كربلاء بغداد وكامل الضفة الغربية له سواء شارع الخلفاء الراشدين أو الخيزران وبقية الشوارع المؤدية حتى المثلث الضامن لمطار بغداد.
ولو أٌحصِيْت الشوارع والأزقة والأحياء المحيطة بالمنطقة لوصلت إلى المئات، الأمر الذي يجعل النقاط الظاهرة أو السرية بحجم ذلك التفريع من حيث العدد، وهو ما يجعل التساؤل كبيراً. فإذا كان الإرهابي قد مَرَّ دون التفاتة من نقطة واحدة، فإنّ الإجراء يقتضي ألاّ يمر في النقطة الثانية أو الثالثة حتى النقطة الـ 300 ولو باكتشاف بشري، لكن ومن خلال الحادث، يظهر أنه مرَّ وتموضع دون حواجز ولا معوقات وهو لُبّ الاستفهام.
هنا أمامنا (وبعد تصوّر عطب الأجهزة المتتبعة لمواد التفجير) أن نفكر جدياً أن هناك ظهيراً على الأرض من الفاسدين يقوم بتمرير الإرهابيين عمداً إلى الأسواق والشوارع المكتظة ولا احتمال آخر «رئيسي» غير ذلك. فإذا كانت العديد من اللجان البرلمانية العراقية قد أظهرت حجم الفساد الذي صاحب عمليات شراء تلك الأجهزة، فيجب أن نعلم أن ذلك الفساد «قد» لا يتورّع في تمرير سيارات الموت كي تقتل الناس.
هنا مسألة مفصلية تبيِّن مدى خطورة وحجم ومدى الفساد الذي وصل في العراق، إلى الحد الذي يمكن أن يُتَاجَر به الدَّم الحرام. وإلاّ فالظروف المحيطة ببغداد أفضل بألف مرة من تلك الظروف المحيطة بالعاصمة الأفغانية كابل (أو مدينة مزار شريف) أو السورية دمشق (أو مدينة اللاذقية) بل وحتى بالعاصمة الصومالية (مقديشو) لكن لم تستطع السيارات المفخخة أن تصل إليها كما وصل الحال في العراق. وهو أمر جدير بالتأمُّل فعلاً.
صحيفة الوسط البحرينية - العدد 5052 - الخميس 07 يوليو 2016م