بيان ماهيّة العقل
رجوع
الخط
اعلم أنّ فهم أخبار أبواب العقل يتوقّف على بيان ماهيّة العقل ، واختلاف الآراء والمصطلحات فيه. فنقول : إنّ العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة ، واصطلح إطلاقه على اُمور :
الاول : هو قوّة إدراك الخير والشرّ والتمييز بينهما ، والتمكّن من معرفة أسباب الاُمور وذوات الأسباب ، وما يؤدّي إليها وما يمنع منها ، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني : ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخير والنفع ، واجتناب الشرور والمضارّ ، وبها تقوي النفس على زجر الدواعي الشهوانيّة والغضبيّة ، والوساوس الشيطانيّة وهل هذا هو الكامل من الأوّل أم هو صفة اُخرى وحالة مغايرة للاُولى؟ يحتملهما ، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيريّة بعض الاُمور مع عدم إتيانهم بها ، وبشرية بعض الامور مع كونهم مولعين بها يدلّ على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشرّ.
والّذي (١) ظهر لنا من تتبّع الأخبار المنتمية إلى الأئمّة الأبرار سلام الله عليهم هو أنّ الله خلق في كلّ شخص من أشخاص المكلّفين قوّة واستعداد إدراك الاُمور من المضارّ والمنافع وغيرها ، على اختلاف كثير بينهم فيها ، وأقلّ درجاتها مناط التكليف ، وبها يتميّز عن المجانين ، وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف ، فكلّما كانت هذه القوّة أكمل كانت التكاليف أشقّ وأكثر ، وتكمل هذه القوّة في كل شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل ، فكلّما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة وعمل بها تقوي تلك القوّة. ثمّ العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال ، وكلّما ازدادت قوّةً تكثر آثارها وتحثّ صاحبها بحسب قوّتها على العمل بها فأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد وسائر أركان الإيمان علم تصوريّ يسمّونه تصديقاً ، وفي بعضهم تصديق ظنّيّ ، وفي بعضهم تصديق اضطراريّ ، فلذا لا يعملون بما يدّعون ، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين يظهر آثاره على صاحبه كلّ حين. وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الإيمان والكفر إن شاء الله تعالى.
الثالث : القوّة الّتي يستعملها الناس في نظام اُمور معاشهم ، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمّى بعقل المعاش ، وهو ممدوح في الأخبار ومغايرته لما قد مرّ بنوع من الاعتبار ، وإذا استعملت في الاُمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمّى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع ، ومنهم من أثبت لذلك قوّةً اُخرى وهو غير معلوم.
____________________
(١) الّذي يذكره رحمهالله من معاني العقل بدعوى كونها مصطلحات معاني العقل لا ينطبق لا على ما اصطلح عليه أهل البحث ، ولا ما يراه عامة الناس من غيرهم على ما لا يخفى على الخبير الوارد في هذه الابحاث ، والذي أوقعه فيما وقع فيه أمران : أحدهما سوء الظن بالباحثين في المعارف العقلية من طريق العقل والبرهان. وثانيهما : الطريق الّذي سلكه في فهم معاني الأخبار حيث أخذ الجميع في مرتبة واحدة من البيان وهي الّتي ينالها عامة الافهام وهي المنزلة الّتي نزل فيها معظم الاخبار المجيبة لاسؤلة أكثر السائلين عنهم عليهمالسلام ، مع أن في الأخبار غررا تشير إلى حقائق لا ينالها إلّا الافهام العالية والعقول الخالصة ، فأوجب ذلك اختلاط المعارف الفائضة عنهم عليهمالسلام وفساد البيانات العالية بنزولها منزلة ليست هي منزلتها ، وفساد البيانات الساذجة أيضاً لفقدها تميّزها وتعيّنها ، فما كل سائل من الرواة في سطح واحد من الفهم ، وما كلّ حقيقة في سطح واحد من الدقة واللطافة : والكتاب والسنة مشحونان بان معارف الدين ذوات مراتب مختلفة ، وان لكلّ مرتبة أهلا ، وان في إلغاء المراتب هلاك المعارف الحقيقيّة. ط
الرابع : مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريّات وقربها وبعدها عن ذلك ، وأثبتوا لها مراتب أربعة : سمّوها بالعقل الهيولاني ، والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد ، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب ، وتفصيلها مذكور في محالّها ، ويرجع إلى ما ذكرنا أوّلاً فإن الظاهر أنّها قوّة واحدة تختلف أسماؤها بحسب متعلّقاتها وما تستعمل فيه.
الخامس : النفس الناطقة الإنسانية الّتي بها يتميّز عن سائر البهائم.
السادس : ماذهب إليه الفلاسفة ، وأثبتوه بزعمهم : من جوهر مجرّد قديم لا تعلّق له بالمادّة ذاتاً ولا فعلاً ، والقول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريّات الدين من حدوث العالم وغيره ممّا لا يسع المقام ذكره ، وبعض المنتحلين منهم للاسلام أثبتوا عقولا حادثة ، وهي أيضاً على ما أثبتوها مستلزمة لانكار كثير من الاُصول المقرّرة الإسلاميّة ، مع أنّه لا يظهر من الأخبار وجود مجرّد سوى الله تعالى.
وقال بعض محقّقيهم : إنّ نسبة العقل العاشر الّذي يسمونه بالعقل الفعّال إلي النفس كنسبة النفس إلى البدن فكما أنّ النفس صورة للبدن ، والبدن مادتها ، فكذلك العقل صورة للنفس ، والنفس مادّته ، وهو مشرق عليها ، وعلومها مقتبسة منه ، ويكمل هذا الارتباط إلى حدّ تطالع العلوم فيه ، وتتّصل به ، وليس لهم على هذه الاُمور دليل إلا مموّهات شبهات ، أو خيالات غريبة زيّنوها بلطائف عبارات.
فإذا عرفت ما مهّدنا فاعلم أنّ الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأوّلين ، الّذين مآلهما إلى واحد ، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر. وبعض الاخبار يحتمل بعض المعاني الاخرى ، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة المستلزم لحصول السعادات.
فأمّا أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا ، أو ما يشملها جميعاً ، وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير ، كما ورد في اللّغة ، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتّصاف النفس بها ، ويكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والاقبال والادبار وغيرها استعارةً تمثيليّةً ، لبيان
أنّ مدار التكاليف والكمالات والترقيّات على العقل ، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلاً لأن يدرك به العلوم ، ويكون الأمر بالاقبال والإدبار أمراً تكوينيا ، يجعله قابلا لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة ، والسعادة والشقاوة معا وآلةً للاستعمال في تعرف حقائق الاُمور ، والتفكّر في دقائق الحيل أيضاً.
وفي بعض الأخبار بك آمر ، وبك أنهى ، وبك اُعاقب ، وبك أثيب. وهو منطبق على هذا المعنى لأنّ أقلّ درجاته مناط صحّة أصل التكليف ، وكلّ درجة من درجاته مناط صحّة بعض التكاليف ، وفي بعض الأخبار « إيّاك » مكان بك في كلّ المواضع ، وفي بعضها في بعضها ، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به فكأنّه هو المكلّف حقيقةً. وما في بعض الأخبار من أنّه أوّل خلق من الروحانييّن ، فيحتمل أن يكون المراد أوّل مقدّر من الصفات المتعلّقة بالروح ، أو أوّل غريزة يطبع عليها النفس وتودع فيها ، أو يكون أوّليّته باعتبار أوّليّة ما يتعلّق به من النفوس ، وأمّا إذا احتملت على المعنى الخامس فيحتمل أن يكون أيضاً على التمثيل كما مرّ. وكونها مخلوقةً ظاهرٌ ، وكونها أوّل مخلوق إما باعتبار أن النفوس خلقت قبل الاجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة ، فيحتمل أن يكون خلق الارواح مقدّماً على خلق جميع المخلوقات غيرها لكنّ « خبر أول ما خلق الله العقل » ما وجدته في الأخبار المعتبرة ، وإنّما هو مأخوذ من أخبار العامّة ، وظاهر أكثر أخبارنا أنّ أوّل المخلوقات الماء أو الهواء كما سيأتي في كتاب السماء والعالم نعم ورد في أخبارنا : أنّ العقل أوّل خلق من الروحانييّن ، وهو لا ينافي تقدّم خلق بعض الأجسام على خلقه ، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناءاً على ماذهب إليه جماعة من تجرّد النفس إقبالها إلى عالم المجرّدات ، وبإدبارها تعلّقها بالبدن والمادّيّات ، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية ، والدرجات الرفيعة ، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات ، وتوجّهها إلى تحصيل الاُمور الدنيّة الدنيويّة ، وتشبهها بالبهائم والحيوانات ، فعلى ماذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أنّ لها هذه الاستعدادات المختلفة ، وهذه الشؤون المتباعدة وان لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيّاً ، وأن يكون كنايةً عن جعلها مدركةً للكلّيّات ، وكذا الأمر بالاقبال والإدبار
يمكن أن يكون حقيقيّاً لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها ، وأن يكون أمراً تكوينيّاً لتكون قابلةً للأمرين أي الصعود إلى الكمال والقرب والوصال ، والهبوط إلى النقص وما يوجب الوبال ، أو لتكون في درجة متوسّطة من التجرد لتعلقها بالمادّيّات ، لكن تجرّد النفس لم يثبت لنا من الأخبار ، بل الظاهر منها مادّيّتها كما سنبيّن فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأمّا المعنى السادس ، فلو قال أحد بجوهر مجرّد لا يقول بقدمه ولا يتوقّف تأثير الواجب في الممكنات عليه ، ولا بتأثيره في خلق الأشياء ، ويسميه العقل ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقاً على ما سمّاه عقلاً ، فيمكنه إنّ يقول : إنّ إقباله عبارة عن توجّهه إلى المبدأ ، وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لإشراقه عليها واستكمالها به.
فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحقّ الحقيق بالبيان ، وبأن لا يبالى بما يشمئزّ عنه من نواقص الأذهان.
فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لارواح النبيّ والائمة عليهمالسلام في أخبارنا المتواترة على وجه آخر فإنهم أثبتوا القدم للعقل ، وقد ثبت التقدّم في الخلق لارواحهم ، إمّا على جميع المخلوقات ، أو على سائر الروحانييّن في أخبار متواترة ، وأيضا أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير ، وقد ثبت في الأخبار كونهم عليهمالسلام علّةً غائيّةً لجميع المخلوقات ، وأنّه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها ، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح ، وقد ثبت في الأخبار أن جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسّطهم تفيض على سائر الخلق حتّى الملائكة والأنبياء.
والحاصل أنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهمالسلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق ، فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله أكثر ، ولمّا سلكوا سبيل الرياضات والتفكّرات مستبدين بآراءهم على غير قانون الشريعة المقدّسة ظهرت عليهم حقيقة هذا الأمر ملبّساً مشتبهاً ، فاخطأوا في ذلك ، وأثبتوا عقولاً وتكلّموا في
ذلك فضولاً (١) ، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ صلىاللهعليهوآله الّذي انشعبت منه أنوار الأئمّة عليهمالسلام واستنطاقه على الحقيقة أو بجعله محلّاً للمعارف الغير المتناهية ، والمراد بالأمر بالاقبال ترقيّه على مراتب الكمال ، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال ، وبإدباره إمّا إنزاله إلى البدن ، أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق ، ويؤمى إليه قوله تعالى قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً (٢) وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلى الخلق ، وبالإدبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار على الاقبال. وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى : ولا اُكمّلك ، يمكن أن يكون المراد ولا اُكمّل محبّتك والارتباط بك ، وكونك واسطةً بينه وبيني إلّا فيمن اُحبّه ، أو يكون الخطاب مع روحهم و نورهم عليهمالسلام والمراد بالاكمال إكماله في أبدانهم الشريفة أي هذا النور بعد تشعّبه بأيّ بدن تعلق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلى الله تعالى وقوله : إيّاك
____________________
(١) بل لانهم تحققوا أوّلا أن الظواهر الدينية تتوقف في حجيتها على البرهان الّذي يقيمه العقل ، والعقل في ركونه واطمينانه إلى المقدمات البرهانية لا يفرق بين مقدمة ومقدمة ، فإذا قام برهان على شيء اضطر العقل إلى قبوله ، وثانيا أن الظواهر الدينية متوقفة على ظهور اللفظ ، وهو دليل ظنّيّ ، والظنّ لا يقاوم العلم الحاصل بالبرهان لو قام على شيء. وأمّا الاخذ بالبراهين في أصول الدين ثم عزل العقل في ما ورد فيه آحاد الأخبار من المعارف العقلية فليس إلّا من قبيل إبطال المقدمة بالنتيجة الّتي تستنتج منها ، وهو صريح التناقض ـ والله الهادي ـ فإن هذه الظواهر الدينية لو أبطلت حكم العقل لابطلت أوّلا حكم نفسها المستند في حجيته إلى حكم العقل.
وطريق الاحتياط الديني لمن لم يتثبت في الابحاث العميقة العقلية أن يتعلق بظاهر الكتاب وظواهر الأخبار المستفيضة ويرجع علم حقائقها إلى الله عز اسمه ، ويجتنب الورود في الابحاث العميقة العقلية إثباتا ونفيا اما إثباتا فلكونه مظنة الضلال ، وفيه تعرض للهلاك الدائم ، وأما نفيا فلما فيه من وبال القول بغير علم والانتصار المدين بما لا يرضى به الله سبحانه ، والابتلاء بالمناقضة في النظر. واعتبر في ذلك بما ابتلي به المؤلف رحمهالله فإنه لم يطعن في آراء أهل النظر في مباحث المبدأ والمعاد بشيء إلّا ابتلي بالقول به بعينه أو بأشد منه كما سنشير إليه في موارده ، وأول ذلك ما في هذه المسألة فإنه طعن فيها على الحكماء في قولهم بالمجردات ثم أثبت جميع خواص التجرد على أنوار النبي والائمة عليهمالسلام ، ولم يتنبه أنّه لو استحال وجود موجود مجرد غير الله سبحانه لم يتغير حكم استحالته بتغيير اسمه ، وتسمية ما يسمونه عقلا بالنور والطينة ونحوهما. ط
(٢) الطلاق : ١١.
آمر. التخصيص إمّا لكونهم صلوات الله عليهم مكلّفين بما لم يكلّف به غيرهم ، ويتأتي منهم من حقّ عبادته تعالى ما لا يتأتي من غيرهم ، أو لاشتراط صحّة أعمال العباد بولايتهم والاقرار بفضلهم بنحو ما مرّ من التجوّز ، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : أوّل ما خلق الله نوري ، وبين ماروى : أوّل ما خلق الله العقل ، وما روي : أوّل ما خلق الله النور ، إن صحّت أسانيدها. وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والإطناب ، ولو وفينا حقّه لكنّا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.
وأمّا الخبر الأخير فهو من غوامض الأخبار ، والظاهر أنّ الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والأسرار ، ويحتمل أن يكون كنايةً عن تعلّقه بكلّ مكلّف ، وأنّ لذلك التعلّق وقتاً خاصّاً ، وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلّق العقل من الأغشية الظلمانيّة ، والكدورات الهيولانيّة ، كستر مسدول على وجه العقل ، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة. وقوله : خلقة ملك. لعلّه بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيّته ، ويحتمل أن يكون « خلقه » مضافاً إلى الضمير مبتداءاً و « ملك » خبره ، أي خلقته خلقة ملك أو هو ملك حقيقةً والله يعلم.
البداية
الفهرس
المفضلة
البحث
المزيد
رجوع
الخط
اعلم أنّ فهم أخبار أبواب العقل يتوقّف على بيان ماهيّة العقل ، واختلاف الآراء والمصطلحات فيه. فنقول : إنّ العقل هو تعقل الأشياء وفهمها في أصل اللغة ، واصطلح إطلاقه على اُمور :
الاول : هو قوّة إدراك الخير والشرّ والتمييز بينهما ، والتمكّن من معرفة أسباب الاُمور وذوات الأسباب ، وما يؤدّي إليها وما يمنع منها ، والعقل بهذا المعنى مناط التكليف والثواب والعقاب.
الثاني : ملكة وحالة في النفس تدعو إلى اختيار الخير والنفع ، واجتناب الشرور والمضارّ ، وبها تقوي النفس على زجر الدواعي الشهوانيّة والغضبيّة ، والوساوس الشيطانيّة وهل هذا هو الكامل من الأوّل أم هو صفة اُخرى وحالة مغايرة للاُولى؟ يحتملهما ، وما يشاهد في أكثر الناس من حكمهم بخيريّة بعض الاُمور مع عدم إتيانهم بها ، وبشرية بعض الامور مع كونهم مولعين بها يدلّ على أن هذه الحالة غير العلم بالخير والشرّ.
والّذي (١) ظهر لنا من تتبّع الأخبار المنتمية إلى الأئمّة الأبرار سلام الله عليهم هو أنّ الله خلق في كلّ شخص من أشخاص المكلّفين قوّة واستعداد إدراك الاُمور من المضارّ والمنافع وغيرها ، على اختلاف كثير بينهم فيها ، وأقلّ درجاتها مناط التكليف ، وبها يتميّز عن المجانين ، وباختلاف درجاتها تتفاوت التكاليف ، فكلّما كانت هذه القوّة أكمل كانت التكاليف أشقّ وأكثر ، وتكمل هذه القوّة في كل شخص بحسب استعداده بالعلم والعمل ، فكلّما سعى في تحصيل ما ينفعه من العلوم الحقة وعمل بها تقوي تلك القوّة. ثمّ العلوم تتفاوت في مراتب النقص والكمال ، وكلّما ازدادت قوّةً تكثر آثارها وتحثّ صاحبها بحسب قوّتها على العمل بها فأكثر الناس علمهم بالمبدأ والمعاد وسائر أركان الإيمان علم تصوريّ يسمّونه تصديقاً ، وفي بعضهم تصديق ظنّيّ ، وفي بعضهم تصديق اضطراريّ ، فلذا لا يعملون بما يدّعون ، فإذا كمل العلم وبلغ درجة اليقين يظهر آثاره على صاحبه كلّ حين. وسيأتي تمام تحقيق ذلك في كتاب الإيمان والكفر إن شاء الله تعالى.
الثالث : القوّة الّتي يستعملها الناس في نظام اُمور معاشهم ، فإن وافقت قانون الشرع واستعملت فيما استحسنه الشارع تسمّى بعقل المعاش ، وهو ممدوح في الأخبار ومغايرته لما قد مرّ بنوع من الاعتبار ، وإذا استعملت في الاُمور الباطلة والحيل الفاسدة تسمّى بالنكراء والشيطنة في لسان الشرع ، ومنهم من أثبت لذلك قوّةً اُخرى وهو غير معلوم.
____________________
(١) الّذي يذكره رحمهالله من معاني العقل بدعوى كونها مصطلحات معاني العقل لا ينطبق لا على ما اصطلح عليه أهل البحث ، ولا ما يراه عامة الناس من غيرهم على ما لا يخفى على الخبير الوارد في هذه الابحاث ، والذي أوقعه فيما وقع فيه أمران : أحدهما سوء الظن بالباحثين في المعارف العقلية من طريق العقل والبرهان. وثانيهما : الطريق الّذي سلكه في فهم معاني الأخبار حيث أخذ الجميع في مرتبة واحدة من البيان وهي الّتي ينالها عامة الافهام وهي المنزلة الّتي نزل فيها معظم الاخبار المجيبة لاسؤلة أكثر السائلين عنهم عليهمالسلام ، مع أن في الأخبار غررا تشير إلى حقائق لا ينالها إلّا الافهام العالية والعقول الخالصة ، فأوجب ذلك اختلاط المعارف الفائضة عنهم عليهمالسلام وفساد البيانات العالية بنزولها منزلة ليست هي منزلتها ، وفساد البيانات الساذجة أيضاً لفقدها تميّزها وتعيّنها ، فما كل سائل من الرواة في سطح واحد من الفهم ، وما كلّ حقيقة في سطح واحد من الدقة واللطافة : والكتاب والسنة مشحونان بان معارف الدين ذوات مراتب مختلفة ، وان لكلّ مرتبة أهلا ، وان في إلغاء المراتب هلاك المعارف الحقيقيّة. ط
الرابع : مراتب استعداد النفس لتحصيل النظريّات وقربها وبعدها عن ذلك ، وأثبتوا لها مراتب أربعة : سمّوها بالعقل الهيولاني ، والعقل بالملكة ، والعقل بالفعل ، والعقل المستفاد ، وقد تطلق هذه الأسامي على النفس في تلك المراتب ، وتفصيلها مذكور في محالّها ، ويرجع إلى ما ذكرنا أوّلاً فإن الظاهر أنّها قوّة واحدة تختلف أسماؤها بحسب متعلّقاتها وما تستعمل فيه.
الخامس : النفس الناطقة الإنسانية الّتي بها يتميّز عن سائر البهائم.
السادس : ماذهب إليه الفلاسفة ، وأثبتوه بزعمهم : من جوهر مجرّد قديم لا تعلّق له بالمادّة ذاتاً ولا فعلاً ، والقول به كما ذكروه مستلزم لإنكار كثير من ضروريّات الدين من حدوث العالم وغيره ممّا لا يسع المقام ذكره ، وبعض المنتحلين منهم للاسلام أثبتوا عقولا حادثة ، وهي أيضاً على ما أثبتوها مستلزمة لانكار كثير من الاُصول المقرّرة الإسلاميّة ، مع أنّه لا يظهر من الأخبار وجود مجرّد سوى الله تعالى.
وقال بعض محقّقيهم : إنّ نسبة العقل العاشر الّذي يسمونه بالعقل الفعّال إلي النفس كنسبة النفس إلى البدن فكما أنّ النفس صورة للبدن ، والبدن مادتها ، فكذلك العقل صورة للنفس ، والنفس مادّته ، وهو مشرق عليها ، وعلومها مقتبسة منه ، ويكمل هذا الارتباط إلى حدّ تطالع العلوم فيه ، وتتّصل به ، وليس لهم على هذه الاُمور دليل إلا مموّهات شبهات ، أو خيالات غريبة زيّنوها بلطائف عبارات.
فإذا عرفت ما مهّدنا فاعلم أنّ الأخبار الواردة في هذه الأبواب أكثرها ظاهرة في المعنيين الأوّلين ، الّذين مآلهما إلى واحد ، وفي الثاني منهما أكثر وأظهر. وبعض الاخبار يحتمل بعض المعاني الاخرى ، وفي بعض الأخبار يطلق العقل على نفس العلم النافع المورث للنجاة المستلزم لحصول السعادات.
فأمّا أخبار استنطاق العقل وإقباله وإدباره فيمكن حملها على أحد المعاني الأربعة المذكورة أولا ، أو ما يشملها جميعاً ، وحينئذ يحتمل أن يكون الخلق بمعنى التقدير ، كما ورد في اللّغة ، أو يكون المراد بالخلق الخلق في النفس واتّصاف النفس بها ، ويكون سائر ما ذكر فيها من الاستنطاق والاقبال والادبار وغيرها استعارةً تمثيليّةً ، لبيان
أنّ مدار التكاليف والكمالات والترقيّات على العقل ، ويحتمل أن يكون المراد بالاستنطاق جعله قابلاً لأن يدرك به العلوم ، ويكون الأمر بالاقبال والإدبار أمراً تكوينيا ، يجعله قابلا لكونه وسيلة لتحصيل الدنيا والآخرة ، والسعادة والشقاوة معا وآلةً للاستعمال في تعرف حقائق الاُمور ، والتفكّر في دقائق الحيل أيضاً.
وفي بعض الأخبار بك آمر ، وبك أنهى ، وبك اُعاقب ، وبك أثيب. وهو منطبق على هذا المعنى لأنّ أقلّ درجاته مناط صحّة أصل التكليف ، وكلّ درجة من درجاته مناط صحّة بعض التكاليف ، وفي بعض الأخبار « إيّاك » مكان بك في كلّ المواضع ، وفي بعضها في بعضها ، فالمراد المبالغة في اشتراط التكليف به فكأنّه هو المكلّف حقيقةً. وما في بعض الأخبار من أنّه أوّل خلق من الروحانييّن ، فيحتمل أن يكون المراد أوّل مقدّر من الصفات المتعلّقة بالروح ، أو أوّل غريزة يطبع عليها النفس وتودع فيها ، أو يكون أوّليّته باعتبار أوّليّة ما يتعلّق به من النفوس ، وأمّا إذا احتملت على المعنى الخامس فيحتمل أن يكون أيضاً على التمثيل كما مرّ. وكونها مخلوقةً ظاهرٌ ، وكونها أوّل مخلوق إما باعتبار أن النفوس خلقت قبل الاجساد كما ورد في الأخبار المستفيضة ، فيحتمل أن يكون خلق الارواح مقدّماً على خلق جميع المخلوقات غيرها لكنّ « خبر أول ما خلق الله العقل » ما وجدته في الأخبار المعتبرة ، وإنّما هو مأخوذ من أخبار العامّة ، وظاهر أكثر أخبارنا أنّ أوّل المخلوقات الماء أو الهواء كما سيأتي في كتاب السماء والعالم نعم ورد في أخبارنا : أنّ العقل أوّل خلق من الروحانييّن ، وهو لا ينافي تقدّم خلق بعض الأجسام على خلقه ، وحينئذ فالمراد بإقبالها بناءاً على ماذهب إليه جماعة من تجرّد النفس إقبالها إلى عالم المجرّدات ، وبإدبارها تعلّقها بالبدن والمادّيّات ، أو المراد بإقبالها إقبالها إلى المقامات العالية ، والدرجات الرفيعة ، وبإدبارها هبوطها عن تلك المقامات ، وتوجّهها إلى تحصيل الاُمور الدنيّة الدنيويّة ، وتشبهها بالبهائم والحيوانات ، فعلى ماذكرنا من التمثيل يكون الغرض بيان أنّ لها هذه الاستعدادات المختلفة ، وهذه الشؤون المتباعدة وان لم نحمل على التمثيل يمكن أن يكون الاستنطاق حقيقيّاً ، وأن يكون كنايةً عن جعلها مدركةً للكلّيّات ، وكذا الأمر بالاقبال والإدبار
يمكن أن يكون حقيقيّاً لظهور انقيادها لما يريده تعالى منها ، وأن يكون أمراً تكوينيّاً لتكون قابلةً للأمرين أي الصعود إلى الكمال والقرب والوصال ، والهبوط إلى النقص وما يوجب الوبال ، أو لتكون في درجة متوسّطة من التجرد لتعلقها بالمادّيّات ، لكن تجرّد النفس لم يثبت لنا من الأخبار ، بل الظاهر منها مادّيّتها كما سنبيّن فيما بعد إن شاء الله تعالى.
وأمّا المعنى السادس ، فلو قال أحد بجوهر مجرّد لا يقول بقدمه ولا يتوقّف تأثير الواجب في الممكنات عليه ، ولا بتأثيره في خلق الأشياء ، ويسميه العقل ويجعل بعض تلك الأخبار منطبقاً على ما سمّاه عقلاً ، فيمكنه إنّ يقول : إنّ إقباله عبارة عن توجّهه إلى المبدأ ، وإدباره عبارة عن توجهه إلى النفوس لإشراقه عليها واستكمالها به.
فإذا عرفت ذلك فاستمع لما يتلى عليك من الحقّ الحقيق بالبيان ، وبأن لا يبالى بما يشمئزّ عنه من نواقص الأذهان.
فاعلم أنّ أكثر ما أثبتوه لهذه العقول قد ثبت لارواح النبيّ والائمة عليهمالسلام في أخبارنا المتواترة على وجه آخر فإنهم أثبتوا القدم للعقل ، وقد ثبت التقدّم في الخلق لارواحهم ، إمّا على جميع المخلوقات ، أو على سائر الروحانييّن في أخبار متواترة ، وأيضا أثبتوا لها التوسّط في الإيجاد أو الاشتراط في التأثير ، وقد ثبت في الأخبار كونهم عليهمالسلام علّةً غائيّةً لجميع المخلوقات ، وأنّه لولاهم لما خلق الله الأفلاك وغيرها ، وأثبتوا لها كونها وسائط في إفاضة العلوم والمعارف على النفوس والأرواح ، وقد ثبت في الأخبار أن جميع العلوم والحقائق والمعارف بتوسّطهم تفيض على سائر الخلق حتّى الملائكة والأنبياء.
والحاصل أنّه قد ثبت بالأخبار المستفيضة أنّهم عليهمالسلام الوسائل بين الخلق وبين الحقّ في إفاضة جميع الرحمات والعلوم والكمالات على جميع الخلق ، فكلّما يكون التوسّل بهم والإذعان بفضلهم أكثر كان فيضان الكمالات من الله أكثر ، ولمّا سلكوا سبيل الرياضات والتفكّرات مستبدين بآراءهم على غير قانون الشريعة المقدّسة ظهرت عليهم حقيقة هذا الأمر ملبّساً مشتبهاً ، فاخطأوا في ذلك ، وأثبتوا عقولاً وتكلّموا في
ذلك فضولاً (١) ، فعلى قياس ما قالوا يمكن أن يكون المراد بالعقل نور النبيّ صلىاللهعليهوآله الّذي انشعبت منه أنوار الأئمّة عليهمالسلام واستنطاقه على الحقيقة أو بجعله محلّاً للمعارف الغير المتناهية ، والمراد بالأمر بالاقبال ترقيّه على مراتب الكمال ، وجذبه إلى أعلى مقام القرب والوصال ، وبإدباره إمّا إنزاله إلى البدن ، أو الأمر بتكميل الخلق بعد غاية الكمال فإنّه يلزمه التنزّل عن غاية مراتب القرب بسبب معاشرة الخلق ، ويؤمى إليه قوله تعالى قد أنزل الله إليكم ذكراً رسولاً (٢) وقد بسطنا الكلام في ذلك في الفوائد الطريفة. ويحتمل أن يكون المراد بالإقبال الإقبال إلى الخلق ، وبالإدبار الرجوع إلى عالم القدس بعد إتمام التبليغ ، ويؤيده ما في بعض الأخبار من تقديم الإدبار على الاقبال. وعلى التقادير فالمراد بقوله تعالى : ولا اُكمّلك ، يمكن أن يكون المراد ولا اُكمّل محبّتك والارتباط بك ، وكونك واسطةً بينه وبيني إلّا فيمن اُحبّه ، أو يكون الخطاب مع روحهم و نورهم عليهمالسلام والمراد بالاكمال إكماله في أبدانهم الشريفة أي هذا النور بعد تشعّبه بأيّ بدن تعلق وكمل فيه يكون ذلك الشخص أحبّ الخلق إلى الله تعالى وقوله : إيّاك
____________________
(١) بل لانهم تحققوا أوّلا أن الظواهر الدينية تتوقف في حجيتها على البرهان الّذي يقيمه العقل ، والعقل في ركونه واطمينانه إلى المقدمات البرهانية لا يفرق بين مقدمة ومقدمة ، فإذا قام برهان على شيء اضطر العقل إلى قبوله ، وثانيا أن الظواهر الدينية متوقفة على ظهور اللفظ ، وهو دليل ظنّيّ ، والظنّ لا يقاوم العلم الحاصل بالبرهان لو قام على شيء. وأمّا الاخذ بالبراهين في أصول الدين ثم عزل العقل في ما ورد فيه آحاد الأخبار من المعارف العقلية فليس إلّا من قبيل إبطال المقدمة بالنتيجة الّتي تستنتج منها ، وهو صريح التناقض ـ والله الهادي ـ فإن هذه الظواهر الدينية لو أبطلت حكم العقل لابطلت أوّلا حكم نفسها المستند في حجيته إلى حكم العقل.
وطريق الاحتياط الديني لمن لم يتثبت في الابحاث العميقة العقلية أن يتعلق بظاهر الكتاب وظواهر الأخبار المستفيضة ويرجع علم حقائقها إلى الله عز اسمه ، ويجتنب الورود في الابحاث العميقة العقلية إثباتا ونفيا اما إثباتا فلكونه مظنة الضلال ، وفيه تعرض للهلاك الدائم ، وأما نفيا فلما فيه من وبال القول بغير علم والانتصار المدين بما لا يرضى به الله سبحانه ، والابتلاء بالمناقضة في النظر. واعتبر في ذلك بما ابتلي به المؤلف رحمهالله فإنه لم يطعن في آراء أهل النظر في مباحث المبدأ والمعاد بشيء إلّا ابتلي بالقول به بعينه أو بأشد منه كما سنشير إليه في موارده ، وأول ذلك ما في هذه المسألة فإنه طعن فيها على الحكماء في قولهم بالمجردات ثم أثبت جميع خواص التجرد على أنوار النبي والائمة عليهمالسلام ، ولم يتنبه أنّه لو استحال وجود موجود مجرد غير الله سبحانه لم يتغير حكم استحالته بتغيير اسمه ، وتسمية ما يسمونه عقلا بالنور والطينة ونحوهما. ط
(٢) الطلاق : ١١.
آمر. التخصيص إمّا لكونهم صلوات الله عليهم مكلّفين بما لم يكلّف به غيرهم ، ويتأتي منهم من حقّ عبادته تعالى ما لا يتأتي من غيرهم ، أو لاشتراط صحّة أعمال العباد بولايتهم والاقرار بفضلهم بنحو ما مرّ من التجوّز ، وبهذا التحقيق يمكن الجمع بين ما روي عن النبيّ صلىاللهعليهوآله : أوّل ما خلق الله نوري ، وبين ماروى : أوّل ما خلق الله العقل ، وما روي : أوّل ما خلق الله النور ، إن صحّت أسانيدها. وتحقيق هذا الكلام على ما ينبغي يحتاج إلى نوع من البسط والإطناب ، ولو وفينا حقّه لكنّا أخلفنا ما وعدناه في صدر الكتاب.
وأمّا الخبر الأخير فهو من غوامض الأخبار ، والظاهر أنّ الكلام فيه مسوق على نحو الرموز والأسرار ، ويحتمل أن يكون كنايةً عن تعلّقه بكلّ مكلّف ، وأنّ لذلك التعلّق وقتاً خاصّاً ، وقبل ذلك الوقت موانع عن تعلّق العقل من الأغشية الظلمانيّة ، والكدورات الهيولانيّة ، كستر مسدول على وجه العقل ، ويمكن حمله على ظاهر حقيقته على بعض الاحتمالات السالفة. وقوله : خلقة ملك. لعلّه بالإضافة أي خلقته كخلقة الملائكة في لطافته وروحانيّته ، ويحتمل أن يكون « خلقه » مضافاً إلى الضمير مبتداءاً و « ملك » خبره ، أي خلقته خلقة ملك أو هو ملك حقيقةً والله يعلم.
البداية
الفهرس
المفضلة
البحث
المزيد