ماذا بعد الانتخابات..
متطلبات واستحقاقات صعبة تنتظر جهات المقاطعة والانعزال السياسي
كتب: كريم المحروس
كان يوم الأربعاء 24 أكتوبر الماضي يوما تاريخيا حاسما في أحد أبعاد السياسة بالنسبة لجزيرتنا الصغيرة ، القابعة وسط مياه الخليج الهادئة والدافئة. حيث بدت مظاهر الاستقطاب والتنافر في هذا اليوم واضحة جلية كالشمس ليس دونها سحاب، بين ما يمثل حركة الإصلاح الرسمي بقيادة ملك البحرين، وبرنامج حركة الإصلاح الشعبية المتمثلة في موقف أربع جمعيات رئيسية لها رصيد جماهيري ومؤسسي كبير وسائد ، شكل خلاصة لعطاء رمز سياسي واجتماعي عريق، غطى بجهوده وتضحياته اكثر من ثمانين عقدا حافلا بالأحداث.
وبينما وقفت السلطات البحرينية في هذا اليوم موقفا مثيرا للجدل على ضفة راسخة وواثقة بخبراتها القانونية وإمكانيات الفوز السياسي والأمني في جميع الأحوال، تقف الجمعيات السياسية الأربع على ضفة أخرى مقابلة، نائبة عن امتداد متبلور عن سنوات عجاف من القطيعة الحقيقية بين ما يمثل فكر سائد مختلف في مرجعاته الفكرية والدينية وبين ما يمثل فكر الجمود على ارث الثأر، ومتبنية لمنهج سياسي مغاير لما كان محركا في عقود المواجهة المباشرة ، ومعتمدة لوسيلة لا تعدم التجديد والتكتيك والمواربة والمناورة والدهاء في وقتنا الراهن على الأقل.
وبين الضفتين المتقابلتين تلك ، هناك هوة سحيقة ضمت كل مكونات الصراع القديم والاخفاقات الحاكمة على مصير هذه الجزيرة الصغيرة ، شاءت الأوضاع – في غير حساب وحكمة -أن تظل مظاهرها منبوذة وراء الظهور بغير ثمن . يضاف إلى ذلك ، أن هذه المكونات ، لم تجد راعيا حقيقيا يحللها بجد ، أو يستعرضها على ملء, أو يستخرج لها الحلول المناسبة ، سواء بالتراضي أو بالعدل القضائي.
هذه المكونات الخطيرة، تظل الصاعق الذي تحن وتلجأ إليه قلوب وعقول جميع الأطراف على غير ضفة، كلما تفشى إحساس هنا وهناك بالغبن النفسي المتكرر، والإحباط أو اليأس المتنامي على قاعدة من فقد الأمل.
ويشير في هذا الشأن بعض المحللين السياسيين وبعض خبراء الاجتماع والعارفين بشعابه من أهل جزيرتنا، أن تلك الجمعيات والرموز المعارضة للمسار السياسي القائم ، لم يكن لها أن تتخذ هذا الموقف الصريح والمتأخر جدا من الانتخابات النيابية ومعطيات التحول عن دستور 1973م، لولا وجود ذلك رقابة حادة من قبل الشياع الاجتماعي الكبير، المغبون المحبط، الباعث على الإثارة وجلب الاهتمام. وهو شياع ورأي عام مثل منذ الانتخابات البلدية الظاهرة الاجتماعية الكبيرة في أجلى صورها ، حيث ستلعب دور اللاعب الأول والأقوى في تحديد مصير ومستقبل هذه الجزيرة تحت شروط التعبير السلمي، سواء تقدم هذه الظاهرة الجمعيات والرموز السياسية أم حققت هذه الأخيرة أمامها غيابا خاضعا لمبادئ أو أصول اللعبة السياسية أو مبرراتهما.
ويؤكد هؤلاء المتتبعون لمسار العملية السياسية في البحرين أيضا، أن الظاهرة الاجتماعية الكبيرة المتمثلة في الرأي الشعبي العام المتحرر من الولاءات السياسية، قد برزت معالمها في بادئ الأمر، اثر انتهاء السلطات ومن ورائها الجمعيات والرموز السياسية والدينية من مشروع نشط وفائق في التعبئة والتوجيه الإعلامي لصناعة مشاركة شعبية ساحقة في أول انتخابات بلدية في هذا القرن ،تشبه في حقيقتها وواقعها ونسبتها المشاركة الشعبية في الاقتراع العام على الميثاق الوطني. حتى أضحى ذلك المشروع ومازال يحتل نصيبا كبيرا من الجدل وإثاراته، حيث لم يتلق هذا المشروع الاستجابة الساحقة ، خلافا لكل التوقعات، وسجل نسبة ضئيلة جدا في هذه الانتخابات مقارنة بنسبة المشاركة في الاقتراع العام على الميثاق الوطني.
ذلك كله يفيد دلالة قاطعة، بأن الظاهرة الاجتماعية الكبيرة أضحت اليوم اكثر استقلالا عن التوجيه السياسي العام، واكثر وعيا وقدرة على صنع الموقف بعيدا عن مزايدات جميع الأطراف. وان خشية كبيرة تملكت الجمعيات والرموز الدينية والسياسية والاجتماعية منذ ظهور نتائج الانتخابات البلدية تلك، مما اجبرها ذلك على إعادة النظر في مواقفها المتميزة بالجمود تارة، والحيرة تارة أخرى، إزاء تراجع الخطوات الإصلاحية في البلاد وإصرار السلطات على إجراء الانتخابات النيابية في ظل الدستور المعدل بعد إصدار عدد من القوانين خارج إطار المؤسسة التشريعية. فانقسمت الى جهتين: مقاطعة وصامتة، وذلك لتدارك الأمر الشعبي المستجد.
لقد كانت عودة الرموز والجمعيات السياسية إلى أحضان الظاهرة الاجتماعية الكبيرة من جديد، هي خير عودة، وعودة شجاعة بكل المقاييس، برغم توقعات الخسارة في الانتخابات النيابية. كما تعد هذه العودة اعترافا بخروجها على مسارها وما عرف عنها حتى وقت قريب، من دور كبير في تصدر التيار الشعبي منذ السبعينات، ومساهمة بشكل أساس في صنع أحداث الثمانينات والتسعينات الممهدة لإصلاحات الوضع الراهن.
ووجدت هذه الجمعيات والرموز في مثل هذا الموقف المقاطع أو الساكت عن إبداء الرأي إزاء الانتخابات النيابية، طريقا مستحبا وبديلا سليما معززا لدورها بين التيار الشعبي العام الذي كاد ينكفئ على ذاته وينعزل إزاء الإحباط المتتالي ومظاهر الفشل التي لحقت بالموقف السياسي بعد جدل نصوص الميثاق وحجم الصلاحيات التي تركها هذا الميثاق حبلا غاربا.
هذه العودة التي ربما تأخذ أشكالا وأنماطا من النشاط الاجتماعي والثقافي المنفصل تماما عن أي نشاط سياسي مباشر أو قريبا منه او متوافقا والأوضاع القانونية التي ستستجد في إطار المجلس النيابي الجديد، يرجح لها التوفيق إذا ما كانت تحمل بين جنبيها ملفات إصلاحية تهم البيت الداخلي ونمط السلوك المتعلق بالتيار العام، من نحو تقدير واحترام مناضليه ونخبه وكفاءاته العلمية، والبناء المؤسسي القائم على العدل والمواطنة، لا على أساس الولاء السياسي أو المرجعي الأحادي الأعمى الذي لم يخرّج لنا خلال العقود الثلاثة الماضية سوى حشر من الأدمغة العاطلة لا حراك فيها ، ولا مسعى لها ولا جهد إلا بما تمليه عليها العواطف الموجهة توجيها غير لائق، كانت خلاصتها صراعات صبيانية لا تعرف للحق موضعا ولا مقبضا.
يفترض بهذه العودة الميمونة أن تسطر لها بين الناس مراجعة شجاعة. ذلك أن مأزق الولوج القسري المتعمد في التصدي لزعامة التيار الشعبي في وقت متأخر، وإبراز عناصر هذا الولوج بشكل دعائي وبديل عن موجودات أخرى كانت فاعلة على الصعيد الشعبي ، اجتماعيا وثقافيا، قد ترك آثارا سلبية حقيقية لا تشذ عن كونها مأزقا حقيقيا وخطيرا. لأن هذا الولوج في هذا المعترك جاء دون حسابات البدائل والخيارات، ودون دراسة واعية وهادئة للأشكال الوهمية التي تتركها السياسة غالبا في عالم الآمال والأحلام النرجسية أو عالم المواربة والمناورة والدهاء.
العودة الميمونة هذه، أراها خيارا وحيدا أفضل، في عالم (المكاسب السياسية) التي طالما ألفنا سماع ألفاظها بلا مسؤولية عند بعض الجمعيات ورموز العمل السياسي . فالمكسب حينما يتمثل في امتطاء بديل ضعيف القواعد ولا يثبت تكوينه إلا بضم قسري لمتبنيات شعبية نضالية كانت نموذجية إلى وقت قريب، هو في واقع الأمر انتكاسة اكثر خطورة من فقدان المكاسب ذاتها.
وفي هذا الصدد، تتبع الكثير منا ما ذهب إليه بعض الصحفيين من كتابات ممجوجة، تهدف النيل مما تحقق من تصورات (مكسبية) ركض وراءها البعض دون حساب وكتاب. وجدنا أن كل عوامل النجاح ظاهرة في كتابات هؤلاء الصحفيين - نرجو من الله أن يقينا ويقي البلاد شر ما يرمون إليه - لا لقوة ذات ومنطق ولسان يتحلون بها، بل لأن ( المكاسب) تلك تحمل في ذاتها عوامل الضعف والفشل منذ افتتاح معارضها وتلويح بعض الوسطاء الرسميين بها جزرا وعسلا إلى بعض رموزنا.
إن رجوع الرموز الشعبية إلى حيث المعقل والعرين، بعيدا عن مظاهر السياسة المخيبة للآمال في البرلمان، يتطلب رجوعا خالصا لله سبحانه وتعالى وحق الوطن، ورجوعا إلى حيث التكامل الاجتماعي المتمثل في علاقة عضوية مع المجتمع، وشفافية صارخة، متميزة بنبذها لمفهوم العلو والكبر في الفكر والسلوك.
فأبناء الوطن ليسوا رعايا عثمانيين، إنما هم مواطنون مخلصون. والمواطن المخلص ليس هو ذاك الإنسان الذي تتملكه هيبة القائد الأحد لتقفل عنده مفاتح العقل والروح. وليس هو مادة الاحتراق في أحوال التدافع كما هو الحال في الانتفاضة السابقة ونتائجها، إنما هو الطاقة الفكرية المولدة في المجتمع حركة انسيابية نحو الكمال الحضاري في مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
إنما تحقق حتى اليوم من مشروع الإصلاحات، وما خلصت إليه من نتائج انتخابية برلمانية في ظل غياب الرموز الشعبية والجمعيات السياسية الكبيرة، لا تعدو كونها محاولات لرفع بعض عوامل الضغينة والحقد والطائفية السياسية التي عانى منها مجتمعنا عقودا من الزمن ، ودفعت السلطات قبل غيرها إزاءها ثمنا لا يقدر في مقاييس التنمية والمدنية . وقد شهدت هذه الإصلاحات مغيبا لخطوات جادة نحو تعزيز مفهوم المجتمع المتجانس والمتحضر على أساس ديمقراطي متكامل، الأمر الذي لا يستدعي منا تبني قيادي شعبي موظف لكل الطاقات في الشأن السياسي دون غيره من الشؤون المهمة والأساسية في مثل هذه الظروف الصعبة. يضاف إلى ذلك: أن المجتمع ليس نظاما سياسيا فحسب، لأن السياسية منهج منظم لجزء يسير من العلاقات الإنسانية، بينما يظل الشأن والبناء الاجتماعي والثقافي على قمة الأولويات التي أثبتت تجارب العمل المعارض خلال العقود الثلاثة الماضية أن غيابه عن قائمة النضال كان العلة الأولى في كل عوامل التراجع والتقهقر، بما فيها فقدان الإرادة الشعبية لثقتها بذاتها وقدراتها وامكانية تحقق التغيير.
من هنا، نجد أن التفرغ للشأن الاجتماعي والثقافي واعطاء الأولوية له، وجدولة المشروع السياسي بعيدا عن حمى الصراعات السياسية التي ربما تنتجها متناقضات المجلس الوطني بشقيه ، النيابي والشورى، يعد بحق خطوة محمودة، موجبة لرفع الآثار السلبية التي تركها مشروع القيادة السياسية الشعبية الواحدة والمنفردة، وموجبة لإعادة بناء علاقة جديدة وطيدة مع المواطنين أساسها المشاركة في مكونات القرارات، لتكون منها قرارات إجماعية شعبية.
وهنا علينا أن نذكر أمرا في غاية الأهمية، هو: أن المواطن نفسه يدرك تماما، أن علاقته برموزه وقادته الشعبيين، لا يحكمها عقد اجتماعي مكتوب، إنما الحكم هنا لنصوص لله سبحانه وتعالى ومعاييرها، وللتفضيل أو الاصطفاء الشعبي لمن حباه الله تعالى بالتقوى ورجحان عقل . وفي مقابل ذلك ، هناك من العقود ما فرضه الواقع الموضوعي، يأتي في اشهرها العقد الاجتماعي المثير للجدل، والذي يراد به تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وبما أن هذه العلاقات في العقدين يفترض بها أن تكون خاضعة للإرادة الأقوى المتمثلة في المواطن لتكسب بها صفتي الثبات والاستقرار معا . فإن المواطن هنا يظل رأس المال الذي لا يجب التفريط فيه. وانه سيصل بما حققه من ظاهرة اجتماعية كبيرة، إلى تعزيز دوره في نصب المعايير الواجب توفرها في أي رمز أو قائد أو جمعية او مسؤول حكومي أو نائب برلماني مهما كانت الهوية المحددة للمعالم ، والمنهج المحدد للوظائف والمهام.
وتأسيا على ذلك، تظل الظاهرة الاجتماعية الكبيرة المتميزة في بلادنا، هي الحكم العظيم الذي سيراقب المواقف والتفاعلات الشعبية والرسمية. لكن مخاطر المرحلة القادمة لا تقل خطورة وستظل هي الأكثر عظمة، لأن مؤسسات المجتمع المدني ورموزه، ستمتحن وستبتلى في دائرة البناء الاجتماعي والثقافي اكثر من أي بناء آخر ، أمام مجتمع محبط وفاقد للأمل وضعيف الثقة في ذاته وفيما حوله، وامام عدد من القوانين التي ستسن لاحقا في عهدة البرلمان الجديد. يأتي على سلم أولوياتها ، قانون الصحافة، وقانون الجمعيات، وقانون الأحوال الشخصية.
ولو اتفقنا أن القانونين الأولين لا خلاف بين الجمعيات والرموز الدينية والسياسية حولهما إلا فيما يتعلق بالواجبات المركزية للسلطات، فان قانون الأحوال الشخصية سيظل محل خلاف وجدل بينها، لما يمثله كل واحد من هذه الجمعيات والرموز من اتجاه فكري غير منسجم في اكثر أبعاده الاجتماعية والثقافية. كما علمتنا تجارب الماضي القريب بأن النشاطين الثقافي والاجتماعي بحاجة إلى ضوابط شرعية أخلاقية وأدبية فضلا عن الضوابط القانونية ، وهي ضوابط لم تكن في يوم من الأيام محل رعاية من قبل المتصدين للعمل الإسلامي ، فكيف بغيرهم، مما تسبب عنه إفرازات اجتماعية خطيرة ساهمت بشكل كبير في انفصام شعبي ترك آثارا سلبية على واقع النضال ونظرياته. وهذا ما لا يرضتيه احد ولا يقبله التيار العام الذي لم يعد يقدر الامور بمنظار جمعياته ورموزه ، بل له معاييره واقيسته الجديدة والمستقلة.
متطلبات واستحقاقات صعبة تنتظر جهات المقاطعة والانعزال السياسي
كتب: كريم المحروس
كان يوم الأربعاء 24 أكتوبر الماضي يوما تاريخيا حاسما في أحد أبعاد السياسة بالنسبة لجزيرتنا الصغيرة ، القابعة وسط مياه الخليج الهادئة والدافئة. حيث بدت مظاهر الاستقطاب والتنافر في هذا اليوم واضحة جلية كالشمس ليس دونها سحاب، بين ما يمثل حركة الإصلاح الرسمي بقيادة ملك البحرين، وبرنامج حركة الإصلاح الشعبية المتمثلة في موقف أربع جمعيات رئيسية لها رصيد جماهيري ومؤسسي كبير وسائد ، شكل خلاصة لعطاء رمز سياسي واجتماعي عريق، غطى بجهوده وتضحياته اكثر من ثمانين عقدا حافلا بالأحداث.
وبينما وقفت السلطات البحرينية في هذا اليوم موقفا مثيرا للجدل على ضفة راسخة وواثقة بخبراتها القانونية وإمكانيات الفوز السياسي والأمني في جميع الأحوال، تقف الجمعيات السياسية الأربع على ضفة أخرى مقابلة، نائبة عن امتداد متبلور عن سنوات عجاف من القطيعة الحقيقية بين ما يمثل فكر سائد مختلف في مرجعاته الفكرية والدينية وبين ما يمثل فكر الجمود على ارث الثأر، ومتبنية لمنهج سياسي مغاير لما كان محركا في عقود المواجهة المباشرة ، ومعتمدة لوسيلة لا تعدم التجديد والتكتيك والمواربة والمناورة والدهاء في وقتنا الراهن على الأقل.
وبين الضفتين المتقابلتين تلك ، هناك هوة سحيقة ضمت كل مكونات الصراع القديم والاخفاقات الحاكمة على مصير هذه الجزيرة الصغيرة ، شاءت الأوضاع – في غير حساب وحكمة -أن تظل مظاهرها منبوذة وراء الظهور بغير ثمن . يضاف إلى ذلك ، أن هذه المكونات ، لم تجد راعيا حقيقيا يحللها بجد ، أو يستعرضها على ملء, أو يستخرج لها الحلول المناسبة ، سواء بالتراضي أو بالعدل القضائي.
هذه المكونات الخطيرة، تظل الصاعق الذي تحن وتلجأ إليه قلوب وعقول جميع الأطراف على غير ضفة، كلما تفشى إحساس هنا وهناك بالغبن النفسي المتكرر، والإحباط أو اليأس المتنامي على قاعدة من فقد الأمل.
ويشير في هذا الشأن بعض المحللين السياسيين وبعض خبراء الاجتماع والعارفين بشعابه من أهل جزيرتنا، أن تلك الجمعيات والرموز المعارضة للمسار السياسي القائم ، لم يكن لها أن تتخذ هذا الموقف الصريح والمتأخر جدا من الانتخابات النيابية ومعطيات التحول عن دستور 1973م، لولا وجود ذلك رقابة حادة من قبل الشياع الاجتماعي الكبير، المغبون المحبط، الباعث على الإثارة وجلب الاهتمام. وهو شياع ورأي عام مثل منذ الانتخابات البلدية الظاهرة الاجتماعية الكبيرة في أجلى صورها ، حيث ستلعب دور اللاعب الأول والأقوى في تحديد مصير ومستقبل هذه الجزيرة تحت شروط التعبير السلمي، سواء تقدم هذه الظاهرة الجمعيات والرموز السياسية أم حققت هذه الأخيرة أمامها غيابا خاضعا لمبادئ أو أصول اللعبة السياسية أو مبرراتهما.
ويؤكد هؤلاء المتتبعون لمسار العملية السياسية في البحرين أيضا، أن الظاهرة الاجتماعية الكبيرة المتمثلة في الرأي الشعبي العام المتحرر من الولاءات السياسية، قد برزت معالمها في بادئ الأمر، اثر انتهاء السلطات ومن ورائها الجمعيات والرموز السياسية والدينية من مشروع نشط وفائق في التعبئة والتوجيه الإعلامي لصناعة مشاركة شعبية ساحقة في أول انتخابات بلدية في هذا القرن ،تشبه في حقيقتها وواقعها ونسبتها المشاركة الشعبية في الاقتراع العام على الميثاق الوطني. حتى أضحى ذلك المشروع ومازال يحتل نصيبا كبيرا من الجدل وإثاراته، حيث لم يتلق هذا المشروع الاستجابة الساحقة ، خلافا لكل التوقعات، وسجل نسبة ضئيلة جدا في هذه الانتخابات مقارنة بنسبة المشاركة في الاقتراع العام على الميثاق الوطني.
ذلك كله يفيد دلالة قاطعة، بأن الظاهرة الاجتماعية الكبيرة أضحت اليوم اكثر استقلالا عن التوجيه السياسي العام، واكثر وعيا وقدرة على صنع الموقف بعيدا عن مزايدات جميع الأطراف. وان خشية كبيرة تملكت الجمعيات والرموز الدينية والسياسية والاجتماعية منذ ظهور نتائج الانتخابات البلدية تلك، مما اجبرها ذلك على إعادة النظر في مواقفها المتميزة بالجمود تارة، والحيرة تارة أخرى، إزاء تراجع الخطوات الإصلاحية في البلاد وإصرار السلطات على إجراء الانتخابات النيابية في ظل الدستور المعدل بعد إصدار عدد من القوانين خارج إطار المؤسسة التشريعية. فانقسمت الى جهتين: مقاطعة وصامتة، وذلك لتدارك الأمر الشعبي المستجد.
لقد كانت عودة الرموز والجمعيات السياسية إلى أحضان الظاهرة الاجتماعية الكبيرة من جديد، هي خير عودة، وعودة شجاعة بكل المقاييس، برغم توقعات الخسارة في الانتخابات النيابية. كما تعد هذه العودة اعترافا بخروجها على مسارها وما عرف عنها حتى وقت قريب، من دور كبير في تصدر التيار الشعبي منذ السبعينات، ومساهمة بشكل أساس في صنع أحداث الثمانينات والتسعينات الممهدة لإصلاحات الوضع الراهن.
ووجدت هذه الجمعيات والرموز في مثل هذا الموقف المقاطع أو الساكت عن إبداء الرأي إزاء الانتخابات النيابية، طريقا مستحبا وبديلا سليما معززا لدورها بين التيار الشعبي العام الذي كاد ينكفئ على ذاته وينعزل إزاء الإحباط المتتالي ومظاهر الفشل التي لحقت بالموقف السياسي بعد جدل نصوص الميثاق وحجم الصلاحيات التي تركها هذا الميثاق حبلا غاربا.
هذه العودة التي ربما تأخذ أشكالا وأنماطا من النشاط الاجتماعي والثقافي المنفصل تماما عن أي نشاط سياسي مباشر أو قريبا منه او متوافقا والأوضاع القانونية التي ستستجد في إطار المجلس النيابي الجديد، يرجح لها التوفيق إذا ما كانت تحمل بين جنبيها ملفات إصلاحية تهم البيت الداخلي ونمط السلوك المتعلق بالتيار العام، من نحو تقدير واحترام مناضليه ونخبه وكفاءاته العلمية، والبناء المؤسسي القائم على العدل والمواطنة، لا على أساس الولاء السياسي أو المرجعي الأحادي الأعمى الذي لم يخرّج لنا خلال العقود الثلاثة الماضية سوى حشر من الأدمغة العاطلة لا حراك فيها ، ولا مسعى لها ولا جهد إلا بما تمليه عليها العواطف الموجهة توجيها غير لائق، كانت خلاصتها صراعات صبيانية لا تعرف للحق موضعا ولا مقبضا.
يفترض بهذه العودة الميمونة أن تسطر لها بين الناس مراجعة شجاعة. ذلك أن مأزق الولوج القسري المتعمد في التصدي لزعامة التيار الشعبي في وقت متأخر، وإبراز عناصر هذا الولوج بشكل دعائي وبديل عن موجودات أخرى كانت فاعلة على الصعيد الشعبي ، اجتماعيا وثقافيا، قد ترك آثارا سلبية حقيقية لا تشذ عن كونها مأزقا حقيقيا وخطيرا. لأن هذا الولوج في هذا المعترك جاء دون حسابات البدائل والخيارات، ودون دراسة واعية وهادئة للأشكال الوهمية التي تتركها السياسة غالبا في عالم الآمال والأحلام النرجسية أو عالم المواربة والمناورة والدهاء.
العودة الميمونة هذه، أراها خيارا وحيدا أفضل، في عالم (المكاسب السياسية) التي طالما ألفنا سماع ألفاظها بلا مسؤولية عند بعض الجمعيات ورموز العمل السياسي . فالمكسب حينما يتمثل في امتطاء بديل ضعيف القواعد ولا يثبت تكوينه إلا بضم قسري لمتبنيات شعبية نضالية كانت نموذجية إلى وقت قريب، هو في واقع الأمر انتكاسة اكثر خطورة من فقدان المكاسب ذاتها.
وفي هذا الصدد، تتبع الكثير منا ما ذهب إليه بعض الصحفيين من كتابات ممجوجة، تهدف النيل مما تحقق من تصورات (مكسبية) ركض وراءها البعض دون حساب وكتاب. وجدنا أن كل عوامل النجاح ظاهرة في كتابات هؤلاء الصحفيين - نرجو من الله أن يقينا ويقي البلاد شر ما يرمون إليه - لا لقوة ذات ومنطق ولسان يتحلون بها، بل لأن ( المكاسب) تلك تحمل في ذاتها عوامل الضعف والفشل منذ افتتاح معارضها وتلويح بعض الوسطاء الرسميين بها جزرا وعسلا إلى بعض رموزنا.
إن رجوع الرموز الشعبية إلى حيث المعقل والعرين، بعيدا عن مظاهر السياسة المخيبة للآمال في البرلمان، يتطلب رجوعا خالصا لله سبحانه وتعالى وحق الوطن، ورجوعا إلى حيث التكامل الاجتماعي المتمثل في علاقة عضوية مع المجتمع، وشفافية صارخة، متميزة بنبذها لمفهوم العلو والكبر في الفكر والسلوك.
فأبناء الوطن ليسوا رعايا عثمانيين، إنما هم مواطنون مخلصون. والمواطن المخلص ليس هو ذاك الإنسان الذي تتملكه هيبة القائد الأحد لتقفل عنده مفاتح العقل والروح. وليس هو مادة الاحتراق في أحوال التدافع كما هو الحال في الانتفاضة السابقة ونتائجها، إنما هو الطاقة الفكرية المولدة في المجتمع حركة انسيابية نحو الكمال الحضاري في مختلف الصعد السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية.
إنما تحقق حتى اليوم من مشروع الإصلاحات، وما خلصت إليه من نتائج انتخابية برلمانية في ظل غياب الرموز الشعبية والجمعيات السياسية الكبيرة، لا تعدو كونها محاولات لرفع بعض عوامل الضغينة والحقد والطائفية السياسية التي عانى منها مجتمعنا عقودا من الزمن ، ودفعت السلطات قبل غيرها إزاءها ثمنا لا يقدر في مقاييس التنمية والمدنية . وقد شهدت هذه الإصلاحات مغيبا لخطوات جادة نحو تعزيز مفهوم المجتمع المتجانس والمتحضر على أساس ديمقراطي متكامل، الأمر الذي لا يستدعي منا تبني قيادي شعبي موظف لكل الطاقات في الشأن السياسي دون غيره من الشؤون المهمة والأساسية في مثل هذه الظروف الصعبة. يضاف إلى ذلك: أن المجتمع ليس نظاما سياسيا فحسب، لأن السياسية منهج منظم لجزء يسير من العلاقات الإنسانية، بينما يظل الشأن والبناء الاجتماعي والثقافي على قمة الأولويات التي أثبتت تجارب العمل المعارض خلال العقود الثلاثة الماضية أن غيابه عن قائمة النضال كان العلة الأولى في كل عوامل التراجع والتقهقر، بما فيها فقدان الإرادة الشعبية لثقتها بذاتها وقدراتها وامكانية تحقق التغيير.
من هنا، نجد أن التفرغ للشأن الاجتماعي والثقافي واعطاء الأولوية له، وجدولة المشروع السياسي بعيدا عن حمى الصراعات السياسية التي ربما تنتجها متناقضات المجلس الوطني بشقيه ، النيابي والشورى، يعد بحق خطوة محمودة، موجبة لرفع الآثار السلبية التي تركها مشروع القيادة السياسية الشعبية الواحدة والمنفردة، وموجبة لإعادة بناء علاقة جديدة وطيدة مع المواطنين أساسها المشاركة في مكونات القرارات، لتكون منها قرارات إجماعية شعبية.
وهنا علينا أن نذكر أمرا في غاية الأهمية، هو: أن المواطن نفسه يدرك تماما، أن علاقته برموزه وقادته الشعبيين، لا يحكمها عقد اجتماعي مكتوب، إنما الحكم هنا لنصوص لله سبحانه وتعالى ومعاييرها، وللتفضيل أو الاصطفاء الشعبي لمن حباه الله تعالى بالتقوى ورجحان عقل . وفي مقابل ذلك ، هناك من العقود ما فرضه الواقع الموضوعي، يأتي في اشهرها العقد الاجتماعي المثير للجدل، والذي يراد به تنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وبما أن هذه العلاقات في العقدين يفترض بها أن تكون خاضعة للإرادة الأقوى المتمثلة في المواطن لتكسب بها صفتي الثبات والاستقرار معا . فإن المواطن هنا يظل رأس المال الذي لا يجب التفريط فيه. وانه سيصل بما حققه من ظاهرة اجتماعية كبيرة، إلى تعزيز دوره في نصب المعايير الواجب توفرها في أي رمز أو قائد أو جمعية او مسؤول حكومي أو نائب برلماني مهما كانت الهوية المحددة للمعالم ، والمنهج المحدد للوظائف والمهام.
وتأسيا على ذلك، تظل الظاهرة الاجتماعية الكبيرة المتميزة في بلادنا، هي الحكم العظيم الذي سيراقب المواقف والتفاعلات الشعبية والرسمية. لكن مخاطر المرحلة القادمة لا تقل خطورة وستظل هي الأكثر عظمة، لأن مؤسسات المجتمع المدني ورموزه، ستمتحن وستبتلى في دائرة البناء الاجتماعي والثقافي اكثر من أي بناء آخر ، أمام مجتمع محبط وفاقد للأمل وضعيف الثقة في ذاته وفيما حوله، وامام عدد من القوانين التي ستسن لاحقا في عهدة البرلمان الجديد. يأتي على سلم أولوياتها ، قانون الصحافة، وقانون الجمعيات، وقانون الأحوال الشخصية.
ولو اتفقنا أن القانونين الأولين لا خلاف بين الجمعيات والرموز الدينية والسياسية حولهما إلا فيما يتعلق بالواجبات المركزية للسلطات، فان قانون الأحوال الشخصية سيظل محل خلاف وجدل بينها، لما يمثله كل واحد من هذه الجمعيات والرموز من اتجاه فكري غير منسجم في اكثر أبعاده الاجتماعية والثقافية. كما علمتنا تجارب الماضي القريب بأن النشاطين الثقافي والاجتماعي بحاجة إلى ضوابط شرعية أخلاقية وأدبية فضلا عن الضوابط القانونية ، وهي ضوابط لم تكن في يوم من الأيام محل رعاية من قبل المتصدين للعمل الإسلامي ، فكيف بغيرهم، مما تسبب عنه إفرازات اجتماعية خطيرة ساهمت بشكل كبير في انفصام شعبي ترك آثارا سلبية على واقع النضال ونظرياته. وهذا ما لا يرضتيه احد ولا يقبله التيار العام الذي لم يعد يقدر الامور بمنظار جمعياته ورموزه ، بل له معاييره واقيسته الجديدة والمستقلة.